المعداوى للعلوم والتكنولوجيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

المواضيع الأخيرة
الموهوبين بالاسماعيلية
مدرسة الموهوبين رياضياً بالاسماعيلية ترحب بكل عضو جديد داخل منتدى المعداوى للعلوم والتكنولوجيا
التبادل الاعلاني
المعداوى للعلوم

العلاقة بين الدلالة والتركيب . دراسات تطبيقية لبعض آيات النفس في القرآن الكريم أ. د عطية سليمان أحمد الجزء الأول

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

العلاقة بين الدلالة والتركيب . دراسات تطبيقية لبعض آيات النفس في القرآن الكريم أ. د  عطية سليمان أحمد الجزء الأول Empty العلاقة بين الدلالة والتركيب . دراسات تطبيقية لبعض آيات النفس في القرآن الكريم أ. د عطية سليمان أحمد الجزء الأول

مُساهمة  المشرف العام الإثنين 14 يونيو 2010 - 12:00

الباب الأول :
(( الدلالة التركيب ))
إن مفهوم النحو في القديم يعني دراسة نظام ترتيب الجمل والنظام الصوتي والنظام الصرفي ، وهو ما يظهر في مؤلفات القدماء في موضوع النحو ، ويبدو أكثر في تعريفهم لعلم النحو ، قال ابن جني في باب القول على النحو ( هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره ، كالتثنية والجمع ، والتحقير والتكسير والإضافة ، والنسب ، والتركيب وغير ذلك ( 1 )
واعتبر كثير من علماء العربية وظيفة القواعد النحوية دلالية ، ولم ينظروا إلى تلك القواعد نظرة سطحية لا تتجاوز ترتيب الألفاظ على نظام القواعد فحسب ، بل تخطوا ذلك إلى العلاقة بين المفردات والتركيب ، قال السكاكي ( اعلم أن علم النحو هو أن تنحو إلى معرفة التركيب فيما بين الكلم لتأدية أصل المعنى مطلقا بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب وقوانين مبنية عليها ليحترز بها عن الخطأ في التركيب من حيث تلك الكيفية ، وأعني بكيفية التركيب تقديم بعض الكلم على بعض ، ورعاية ما يكون من الهيئات إذ ذاك ) (2)
والصرف وثيق الصلة بالتركيب ولا يمكن الفصل بينهما ، فوظائف المفردات في التراكيب تحدد من خلال بنيتها الصرفية ، فالبنية الصرفية هى التي تحدد زمن الفعل وفاعله ، وتدل الصيغة أيضا على أبنية الفاعل والمفعول والصفة ، وصيغ المبالغة ، وتوظيف الكلمات في التراكيب بناء على صيغتها الصرفية . ولهذا فعلم الصرف هو الذي يحدد دلالة مفردات التركيب في الجمل ، وعلم النحو هو الذي يضع ترتيبها ، ويحدد وظيفتها بناء على دلالتها الصرفية والمعجمية (3)
( الدلالة التركيبية )
ظهر علم جديد يسمى علم الدلالة التركيبية ، وهو العلم الذي يهتم ببيان معنى الجملة أو العبارة ، وقد عرف هذا النوع من دراسة دلالة الجملة بعلم الدلالة التركيبية أو علم دلالة الجملة في الغرب ، وقد بدأ عند الغربيين من خلال البحوث الدلالية التركيبية في علم النحو التحويلي ، ومعنى الجملة عند الغربيين يعني وظيفة معاني أجزائها ، أو معنى الوحدات القاموسية والصلات الدلالية بين مكونات الجملة ، كما بحثوا معنى الوحدات الصرفية ( المورفيمات المفردة ) والمعاني التي تتحقق من الصلات النحوية بين هذه الوحدات .
إن القضية التي ندرسها ليست قضية وظيفة معنى لفظ في تركيب ، بل المقصد هو دلالة التركيب أو الجملة ، وعلاقته المتماسكة وأثرها في المعنى ، والمتلقي يدرك بوعيه اللغوي مقاصد اللغة ، ومعاني الألفاظ ترتبط بالسياق النصي العام الذي جاءت فيه ، وتعد دراسة النص من خلال تركيبه هي الأساس في فهم دلالته ، لأن التركيب متى افتقد لدلالة افتقد قيمته ، وقيمة المفردات في وظائفها الدلالية (4)
إن النحو يقوم ببحث العلاقات التي تربط بين الكلمات في الجملة الواحدة ، وبيان وظائفها

1 ـ الخصائص لابن جني تحقيق محمد على النجار دار الكتب المصرية 1952 ج1/34
2 ـ مفتاح العلوم ، السكاكي ، أبو يعقوب يوسف ابن أبي بكر ، طبعة التقدم القاهرة 1348 ص33
3 ـ التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة د . محمود عكاشة ، دار النشر للجامعات القاهرة 2005 ص 117
4 ـ أثر اللسانيات في النقد العربي الحديث ، توفيق الزيدي الدار العربية للكتاب تونس 1984 ص 73
إذ أنه وسيلة نحو التفسير النهائي لتعقيدات التركيب اللغوي ، والدلالة هى التي تبرز الاختلاف بين التراكيب المختلفة ، فالنحو والدلالة يتعاونان معا على توضيح النص وتفسيره واتجهت الدراسات اللغوية الحديثة إلى الربط بينهما في بناء اللغة ) إن الدلالة التركيبية هى الدلالة الناشئة عن العلاقة بين وحدات التركيب أو المستمد من ترتيب وحداته على نحو يوافق القواعد ، فالنظام التركيبي ذو فاعلية في خلق المعنى المتعدد ، فهو جزء أساسي من حيوية اللغة .
الفصل الأول
رأي القدماء في العلاقة بين المعنى والتركيب :

لقد بذل القدماء ما في وسعهم من أجل توضيح العلاقة بين المعنى والتركيب ، فهم يرون أن النظام التركيبي ذو فاعلية في خلق المعنى المتعدد ، فاتجهوا إلى المعنى ، فالجملة تشكل شبكة من العلاقات السياقية التي يقوم كل علاقة منها عند وضوحها مقام القرينة المعنوية ، والتي تعتمد في وضوحها على التآخي بينها وبين القرائن اللفظية في السياق ، فقد خرج النحو من إطار الكلمة ووظيفتها في التركيب إلى نطاق السياق ، بل امتد دور النحو في دراسة النص جميعه ، فلقد تخطى دور النحو الإعراب ومشكلاته على مستوى الكلمة ، وتعداه على مستوى التركيب ، وما يتعلق به من وظائف الكلمات والعلاقة المعنوية التي تربط مفرداته ومسائل نظم الكلام وتأليفه ) (2)
وقد استطاع ابن جني وعبد القادر الجرجاني أن يكشفا العلاقات الداخلية بين المفردات التي يتألف منها التركيب ، وجعل ابن جني المعنى أساس صحة التركيب النحوي وقبوله ، كما أن عبد القاهر رأى أن اللفظ مفرداً لا يشكل قيمة دلالية ، ولا نستطيع تقييمه منفرداً بعيداً عن السياق اللغوي ، كما أن تأليف الكلام أو نظمه على قواعد النحو ، ليس أساساً في صحة التركيب ، بل الأساس اتساق التركيب في المعنى مع قواعد التركيب .
يقول عبد القاهر الجرجاني في هذا ( واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه
( علم النحو ) وتعمل على قوانينه وأصوله ، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها ، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك ، فلا تخل بشيء منها .....هذا هو السبيل ، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا ، وخطؤه إن كان خطأ ، إلى النظم ، ويدخل تحت هذا الاسم إلا وهو معنى من معاني النحو ، قد أصيب به موضعه ، ووضع في حقه ، أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه ، واستعمل في غير ما ينبغي له ، فلا ترى كلاما قد وصف بالصحة نظم أو فساده ، أو وصف بمزية وفضل فيه ، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك الميزة وذلك الفضل ، إلى معاني النحو وأحكامه ، ووجدته يدخل في أصل من أصوله ويتصل باب من أبوابه (3)
1 ـ أثر اللسانيات في النقد العربي الحديث ، توفيق الزيدي ، الدار العربية للكتاب تونس 1984م ص 73
2 ـ دراسات في علم اللغة القسم الثاني د . كمال بشر ، دار المعارف ط 2/1971م ص94
3 ـ دلائل الإعجاز ، عبد القاهر الجرجاني ، تحقيق محمود شاكر ، مطبعة المدني 1992م ص81
قام ابن جني بدراسة رائدة في علاقة النحو بالمعنى فأطلق على معنى التركيب اسم الدلالة المعنوية
ويقصد بها ( المعنى الذي يتحقق من تراكيب الكلام . وذلك من خلال العلاقات الإعرابية أو العلاقات التي يقيمها نظام الإعراب ، وهى علاقات معنوية تنشأ في التركيب ....ويؤكد ابن جني أن وظيفة الألفاظ في التركيب تبين من ناحية المعنى لا من ناحية اللفظ ( فقد عملت أن دلالة المثال على الفاعل من جهة معناه ) (1)وسيطرت فكرة الدلالة التركيبية أو الدلالة الجملة على ابن جني ولهذا نجده يحكم بفساد التركيب لفساد معناه ، وإن صح التركيب شكلاً ( ومن المحال أن تنقض أول كلامك بآخره ، وذلك كقوله : قمت غداً ، أو سأقوم أمس ) (2)
واستشهد ابن جني على فساد بعض التراكيب لتناقضها في المعنى ، مثل الياقوت أفضل الطعام، وزيد أفضل الحمير ........وتبين من ذلك أن التركيب يصبح فاسداً إذا تناقض منطقياً أو استحال قبول معناه عقلا ، وهذا سبق فريد من ابن جني حيث ربط بين المعنى والشكل ، فرفض التراكيب الشكلية المصنوعة التي لا تتسق مع الواقع والعقل ، فالدلالة عنده تقوم على صحة الشكل والمضمون معاً ، فلا يكفي صحة الإعراب في بناء الجملة بل من الضروري اتساق المعنى مع الواقع وقبوله منطقيا . وتوسع في ذلك فربط بين المضمون والعالم الخارجي ، وذهب إلى ضرورة اتساق المضمون مع العالم الخارجي ) (3)
عبد القاهر الجرجاني :
وذهب عبد القاهر مذهب ابن جني ، فأبطل كثيرا من التراكيب التي يستحيل حدوث معناها ، كعموم النفي في مثل : ما أكلت شيئاً ، ومارأيت أحداً من الناس ، وأنت مبصر ...وضرب عبد القاهر كثيراً من الأمثلة على فساد التركيب نحو قول الفرزدق يمدح إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك الخليفة قائلا :
وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه
أي وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبو يعني المملك هشاماً ، وأبو أم ذلك المملك أبو هذا الممدوح .
ويعقب على تلك الشواهد بقوله : وفي نظائر ذلك مما وصفوه بفساد النظم ، وعابوه من جهة سوء التأليف
أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب ، وصنع في تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار أو غير ذلك مما ليس يصنعه ، وما لا يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم ) (4)
وتعد نظرية النظم التي وضعها عبد القاهر وآراؤه التي دارت في رحا التركيب والمعنى صدى لجهود ابن جني ( ت391 هـ ) والنتائج التي توصل إليها ثمرة القضايا اللغوية التي عالجها ابن جني في كتابه الخصائص ، فنظرية النظم ليست إلا تطويراً لما قاله ابن جني
1 ـ الخصائص ج3 /99
2 ـ الخصائص ج3 /331
3 ـ التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة 132
4 ـ دلائل الإعجاز ص84
من ضرورة مراعاة المعنى في صناعة التركيب ، واتساق معنى التركيب مع الفكرة وعدم مخالفة الواقع ، كما أنه اهتم بالشكل التركيبي ، وجعل المعنى العلاقة التي تربط بين عناصره (1)
يعد عبد القاهر أكثر علماء العربية القدماء اهتماما بدراسة العلاقات التركيبية ، ومعنى التراكيب وإمامه في ذلك ابن جني ، وذلك من خلال نظرية النظم التي تقوم على تناسق دلالة الألفاظ ، وتلاقي معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل ، وأن يأتي ترتيب توالي الألفاظ في النص على ترتيب المعاني في النفس ، قال وأن يتوخى المتكلم في ذلك معنى الإعراب وقواعد اللغة واعتبر عبد القاهر دور الفكرة في النظم( فينبغي أن ينظر في الفكر ، بماذا تلبس ؟ أبالمعاني أو بالألفاظ ؟ فأي شيء وجدته الذي تلبس به فكرك من بين المعاني والألفاظ ، فهو الذي تحدث فيه صنعتك ) (2)
ويرى عبد القاهر ضرورة مراعاة قواعد اللغة الشكلية والعلاقات الداخلية التي تربط بين أجزاء التراكيب ، والتي تتمثل في المعنى و الألفاظ عنده لبن هذا البناء أو المادة التي يقوم عليهانظم الكلام ، وتأتي في المرحلة الثانية بعد المعاني ( بان بذلك أن الأمر على ما قلنا ، من أن اللفظ تتبع للمعنى في النظم ، وأن الكلم ترتب في النطق بسبب ترتيب معانيها في النفس ......فالألفاظ خدم للمعاني ، فمعرفة المعاني تأتي في المقام الأول ، ثم مطابقة الألفاظ المعاني ، ثم ترتيب المعاني في النفس ثم تأتي في المرحلة الأخيرة وهى ترتيب الألفاظ بما يتفق مع الفكر أو على نسق الفكر ) (3)
ابن الأثير :
وقد ذهب ابن الأثير مذهب الجرجاني في أن التفاضل يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها
فقال ( واعلم أن تفاوت التفاضل يقع في تركيب الألفاظ أكثر ما يقع في مفرداتها ، لأن التركيب أعسر وأشق ، ألا ترى ألفاظ القرآن الكريم من حيث انفرادها قد استعملها العرب ومن بعدهم ، ومع ذلك فإنه يفوق جميع كلامهم ويعلو عليه ، وليس ذلك إلا لفضيلة التركيب (4) ، ثم يذكر مثالاً على ذلك فيقول ( وهل تشك أيها المتأمل لكتابنا هذا إذا فكرت في قوله تعالى ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ، وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودي ، وقيل بعداً للقوم الظالمين ) (هود 44 )
أنك لم تجد ما وجدته لهذه الألفاظ من المزية الظاهرة إلا لأمر يرجع إلى تركيبها ، وأنه لم يعرض لها هذا الحسن إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية ، والثالثة بالرابعة ، وكذلك إلى آخرها ، فإن ارتبت في ذلك فتأمل هل ترى لفظة منها لو أخذت من مكانها ، وأفردت من بين أخواتها كانت لابسة من الحسن مالبسة في موضعها من الآية ، ومما في كلام آخر فتكرهها ، فهذا ينكره من لم يذق طعم الفصاحة ولا عرف أسرار الألفاظ في تركيبها وانفرادها(5)

1 ـ التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة 133
2 ـ دلائل الإعجاز 51
3 ـ المرجع السابق 56 ـ 54
4 ـ المثال السائر في أدب الكاتب لابن الأثير تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ـ المكتبة العصرية ـ لبنان 1990م ج1 /151
5 ـ المرجع السابق ج 1/ 152
رأي المحدثين في القديم العلاقة بين الدلالة والتركيب :
إن مصطلح النحو في الدرس العام له دلالة عامة في الدرس القديم ، ودلالة خاصة في الدرس الحديث ، فمصطلح syntax لا يعني النحو بمعناه العام وإنما يعني فرع من فروع النحو grammar ، والأخير هو الذي يقابل المعنى العام القديم ، والتركيب syntax يعني التأليف أو نظم المفردات في شكل معين ، وهو لا يعني الجملة المفيدة في كل السياقات ، فقد يعني تأليف الحروف لتكوين كلمة ، وهو ما يعرف بنظم حروف الكلمة ومصطلح syntax استخدمه التقليديون على أنه أحد فروع النحو grammar ، الذي يعالج نظام ترتيب الجملة والعلاقات التي تربط بين أجزائها وأثرها في المعنى ، وأثر إعادة ترتيب الجملة ما قد ينجم عن تلك العلاقات من تغيرات تصريفية .
وتدخل الدلالة التركيبية حديثا تحت مايطلق عليه ( علم دلالة الجملة ) أو علم الدلالة التركيبي ، وهو العلم الذي يهتم ببيان معنى الجملة أو العبارة ، وقد عرف هذا النوع من الدراسة عند الغرب بعلم الدلالة التركيبي أو علم دلالة الجملة ، وقد بدأ عند الغربيين من خلال البحوث الدلالية في علم النحو التحويلي .
ومعنى الجملة عند الغربيين يعني وظيفة معاني أجزائها ، أو معنى الوحدات القاموسية ، والصلات الدلالية بين مكونات الجملة ، كما بحثوا حتى الوحدات الصرفية ( المورفيمات المفردة ) والمعاني التي تتحقق من الصلات النحوية بين هذه الوحدات .
وقد تنبه علماء اللغة المحدثين إلى تطبيق النحو في الدلالة فاتجه البحث إلى دراسة الجمل من ناحية العلاقات السياقية أو السنتاجماتية suyntagmatic relations في مقابل الصرف الذي يدرس العلاقات الجدولية أو البراديجماتية paradigmatic (1)، وأرى أن هذا الرأي لا يتسق مع آراء النحاة العرب في وظيفة النحو ، فليست دراسة الجملة في ضوء الدلالة من صنع المحدثين ، بل هم في ذلك تابعون للقدماء من العرب ، ودراسة شكل الجملة فقط تنسب إلى البنيوية وغيرها من المذاهب الشكلية (1) والنظام التركيبي ذو فاعلية في عمل المعنى المتعدد ، فهو جزء أساسي من حيوية اللغة ، وقد بذل المتقدمون ما في وسعهم من أجل توضيح هذه الفاعلية ، فانتظام الكلمات ونوع الترابط والانفصال بين العبارات والتفاوت الملحوظ بين صيغ الكلمات في العبارة كل أولئك كان مجالا واسعاً يكشف إمكانيات غير قليلة ) (3)
لقد بالغ بعض النحاة العرب فذهبوا إلى كلمات مستترة وكلمات مقدرة ، بل لقد أعطوا هذه الكلمات أحكاما إعرابية وألزموها ضماً أو كسراً أو فتحاً ، وهذه الكلمات لا وجود لها ، وهذه الأحكام التقديرية التي تقوم على كلمات مفترضة ، وأحكام ظنية وعوامل متوهمة تشكل عقبة في طريق الدرس اللغوي الحديث ، الذي يبحث عن أيسر المناهج لتعليم اللغة ، فرأى بعض العلماء ضرورة التخلص مما ليس له وجود أو مما ليس فيه فائدة ، ويشكل عبئا على المتعلم

1 ـ مناهج البحث في اللغة د . تمام حسان ص229 دار الثقافة 1400 هـ - 1979 م
2 ـ التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة 124
3 ـ دراسة لغوية لصور التماسك النصي د . مصطفى قطب ، دار العلوم 1417 هـ ـ 1996م ص17
وقد رأت المدرسة البنيوية أو الشكلية ـ أن تفرق بين عنصري العبارة اللغوية ( عنصر اللفظ وعنصر المعنى ) وأن تحلل كلا منهما على حدة وفقا لطبيعة كل منهما ، وذلك لأن المعنى أمر نسبي يخضع تحديده للظروف الخارجية ، الانطباعات الجانبية والحالة النفسية ، أما العبارة فهي كيان مادي محدد الأجزاء ثابت الصورة ) (1)
ولم تفصل المدرسة البنيوية بين الشكل والمعنى إلا فصلا مرحليا ، فدراسة الصورة اللفظية منفصلة عن المضمون الدلالي لا يعني إهمال الدلالة ، وذلك لأنه على الباحث أن يربط كل صورة لفظية بقالبها الدلالي .
وقد رأى فيرث أن المعنى موجود حتى على المستوى الصوتي ، وهو في هذا يعتمد على نظرية تقول إن تمييز فرد من أفراد مجموعة عن سواه يعني تحديد مدلوله ، والتاء غير الهاء والقاف غير الكاف لما بين كل فرد من أفراد هاتين المقابلتين من وجوه شبه ووجوه اختلاف تميز واحداً منها عن الآخر ، وهذا التمييز في حد ذاته دلالة على مستوى هذه المقارنة ، وتوجد على المستوى الصرفي عناصر الدلالة أيضاً ، فالصرف morpheme مجموعة من الأصوات ذات الدلالة ، والعلاقة النحوية تتضمن دلالة كذلك ، أما الدلالة القاموسية فأوضح من أن تعرف ) (2)
ويتبين من ذلك أهمية دور النحو في تحديد المعنى ، فالغاية من دراسة النحو هى فهم تحليل بناء الجملة تحليلاً لغوياً يكشف عن أجزائها ، ويوضح عناصر تركيبها ، وترابط هذه العناصر ببعضها الآخر ، لتؤدي معنى مفيدا ، ويبين علائق هذا البناء ، ووسائل الربط بينه ، والعلامات اللغوية الخاصة بكل وسيلة من هذه الوسائل ) (3)
تشوسكي : كانت قضية المعنى من أسباب ثورة تشومسكي على المنهج البنيوي حيث لاحظ أنه غير على شرح العلاقات التي يمكن أن تقوم بين مختلف الجمل ، فقد تشترك جملتان في الشكل على حين تختلفان اختلافاً جذرياً في المعنى نحو :
1 ـ صراخ المجرم لم يؤثر في الناس
2 ـ عقاب المجرم لم يؤثر في الناس
فالجملتان من حيث الشكل الخارجي متشابهتان تماماً ، في علاقة المفردات ببعضها .......ومع ذلك فالمعنيان مختلفان ، فتحليل ظاهر اللغة أو شكلها الخارجي لا يفسر دائما المعنى ، فالجملتان متشابهان في المظهر الخارجي ويحللان شكلياً بصورة واحدة ،ولكن المعنى مختلف تماماً ) (4)
لقد ميز علما اللغة الحديث بين الجمل غير المقبولة لأسباب نحوية ، والجمل غير المقبولة لأسباب قاموسية أو لأسباب تتعلق بالمعنى ، فالجملة قد تكون صحيحة نحوياً ، ولكنها ليست كذلك دلالياً ، وقد ذكر تشوسكي جملة أصبحت شهيرة في الدراسات اللغوية المعاصرة للدلالة على ذلك ، وهى الأحلام أو الأفكار الخضراء عديمة اللون تنام غاضبة

1 ـ التحليل الدلالي للجملة العربية د . عبد الرحمن أيوب ، المجلة العربية للعلوم الإنسانية عدد /10م 3/1983 ص108
2 ـ المرجع السابق ص109
3 ـ التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة 127
4 ـ العلوم اللغوية ونظرية تشوسكي د . عطية سليمان أحمد الأصمعي 2006 الدمام
فالجملة صحيحة من ناحية الشكل ومنحرفة قاموسياً ، أو غير مقبولة من ناحية المعنى ، ومن ثم فقد رأى تشومسكي أنها ليست نحوية أيضاً (1)
هذه الآراء حول صلة الدلالة والمعنى بالتركيب تحدث عنه كما رأينا القدماء بما يتضح معه مدى الحاجة إلى دراسة تطبيقية لتوضيح مدى الترابط بين العلمين ( علم الدلالة وعلم النحو ) وقد قمت بهذا العمل من خلال دراسة بعض النصوص القرآنية التي تتصل بالنفس الإنسانية ، وقسمتها إلى محاور ـ كما يبدو من الدراسة التطبيقية ـ وجمعت الآيات المتشابهة من حيث المعنى والتركيب وتدور حول شيء واحد هو محور هذه المجموعة من الآيات ، فلاحظت أوجه الخلاف والاتفاق بينهما وإلى أي مدى يخدم هذا الخلاف أو الاتفاق المعنى أو أي مدى نجحت التراكيب اللغوية للآية في تصور المعنى المقصود منها .
1 ـ علم الدلالة د . محمود جاد الرب مطبعة عامر بالمنصورة 1991 ص33
دراسات تطبيقية لبعض آيات النفس في القرآن الكريم
وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تحتوي على كلمة نفس ، فلماذا هذه الكلمة دون غيرها ؟ .
لقد كانت هذه الكلمة خير تعبير عن الذات الإنسانية , حيث ترتبط الإنسان قبل ولادته حتى بعثه
ودخوله الجنة أو النار ، فالمقصود بها هذا الشيء كائنا ما كان ( إنسان ـ حيوان ـ جماد ـ ملاك ـ شيطان )
في كل حالاته حياً ميتا مبعوثاً بعد الموت في الدار الآخرة .
فهي لفظة شاملة لكل شيء ، وللشيء في كل حالاته ( مادياً أو معنوياً ) محسوساً أو مفهوما ‘ ولهذا يعبر
الحق عنها في القرآن الكريم كشيء مجسد محسوس حتى بعد فناء صاحبها لأنها الشيء الذي لا يفنى ،
فأصبح قوله تعالى ( كل من عليها فان ) (1) يقصد به فناء الجسد ، أما النفس فما زالت باقية فيه ، فهي
لا تفنى ، فتشهد حياة البرزخ ، ثم البعث والحساب وينتهي بها المآل إلى جنة أو إلى النار ،
ولهذا كان التعبير بكلمة نفس دون غيرها أصح وأدق الألفاظ وذلك لإشارتها إلى شيء خالد لا يموت .
أما كيف تناولها التعبير القرآني ، فإن هذا هو مدار الحديث في هذا البحث ، حيث نتناول هنا جانبين من
القضية .
الأول : المواقف أو الموضوعات التي تخص النفس الإنسانية وتعرض لها القرآن الكريم ، وإن كنا
سنختار أهم الموضوعات وليس كل الموضوعات التي ذكرها القرآن الكريم
الثاني : الطريقة اللغوية التي عبر بها القرآن الكريم عن تلك المواقف ، ويأخذ هذا الأمر عدة جوانب
حيث ندرس بناء الجمل التي وردت فيها كلمة نفس من الجانب الصوتي والدلالي والبنائي والتركيبي .
وكذلك المقارنة بين الآيات المتشابهة لمعرفة أوجه الخلاف والتشابه بينها، وسبب ذلك ، ونحاول
أن نصل من خلال الآيات إلى أن نطابق بين المقصود من العبارة القرآنية ، وما قاله المفسرون وما يقوله
النص من خلال التحليل اللغوي له ، وهو الهدف من الدراسة ، فهي دراسة لغوية لآيات النفس في القرآن
الكريم ، وكذلك يمكن أن نعرف ما هى النفس الإنسانية من خلال تحليل الآيات القرآنية
( أهم المحاور التي تدور حولها لفظ نفس في القرآن الكريم )

1 ـ خلق الإنسان
2 ـ موت الإنسان
3 ـ طبيعة النفس الإنسانية
جزاء النفس في الآخرة
تكليف النفس
هداية النفس
ظلم النفس
البخل و الشح ومقاومتها
1 ـ الرحمن 55/26
الفصل الأول
اللغة وطبيعة النفس القرآنية

عبرت الآيات القرآنية عن النفس الإنسانية في حالاتها مختلفة ( موت ـ البدء ـ الهدى ـ الضلال ....... )
بعبارات متنوعة تصور كل حالة على حدة وبطريقة متباينة ، فتقوم اللغة بالتعبير عن تلك الحالة
بوسائلها المختلفة ، ونحن هنا إذ ندرس اللغة من خلال معاني النفس في القرآن ، نحاول أن نلقي الضوء على تل الوسائل .
موضحين دورها الدلالي والتركيبي في التعبير عن خصائص هذه الحالة ، وإلى أي مدى نجحت تلك الوسائل
في توضيح معنى الآية والمقصود منها .
كما ذكرت آنفاً أن الآيات تناولت الحديث عن النفس بصور وحالات مختلفة ، ونحاول هنا أن نتناول بعض
تلك الحالات باعتبارها محاور للبحث ، فكان أول محور للدراسة هو :
’’ حالة البدء ’’
( خـلق الإنسان )

وهى بداية خلق الإنسان ، قد جاءت آيات كثيرة تعبر عن تلك المرحلة في حياة الإنسان ( بداية الخلق ) وهى في أغلبها جاءت بنص واحد مع اختلاف في المقام الذي تقال فيه ، وما يحيط بالقالب اللغوي الواحد من عبارات مختلفة ، وقد قسمت الآيات لمجموعتين
( أ ) المجموعة الأولى
1 ـ النساء 4/1( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً
كثيراً ونساء )
2 ـ الأنعام 6/98 ( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع )
3 ـ الأعراف 7/189 ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ‘ وجعل منها زوجها ليسكن إليها )
4 ـ الزمر 39/6 ( خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها )
المجموعة الثانية ( ب )
1 ـ الروم 3/21 ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ، وجعل بينكم مودة ورحمة )
2 ـ لقمان 31/28 ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير )
3 ـ الشمس 91/7 ( ونفس وما سواها )
في المجموعة ( أ )
أولا ً : أوجه الاتفاق بين الآيات : ( المجموعة الأولى من الآيات ) ( أ )
نجد الحق تبارك وتعالى يخبرنا أنه خلقنا من نفس واحدة ، وهى كما أجمع المفسرون آدم ، وخلق منه زوجته حواء ، والقالب اللغوي الذي عبر عن ذلك هو قوله تعالى
الذي خلقكم من نفس واحدة (النساء )
هو الذي أنشأكم من نفس واحدة ( الأنعام )
هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( الأعراف )
خلقكم من نفس واحدة ( الزمر )
الفعل (خلقكم ) + من + نفس + واحدة
فهو توضيح وتأكيد من الحق تبارك وتعالى أنها نفس واحدة ، فنجد لفظة واحدة تشمل الفعل والفاعل
والمفعول ، وهي ( خلقكم )أفادت معنى كاملا ،ً وهو الخلق ( الفعل ) مسند إلى صاحبه تبارك وتعالى
( الله )
ومع مخلوقاته ، وصنعته هو البشر ، كل هذا نفهمه من كلمة واحدة ( خلقكم ) فلا حاجه هنا إلى الإطالة
فهو حكم يصدره الحق تبارك وتعالى على الخلائق بأنهم جميعاً صنعته ، ولهذا تكررت أربع مرات بنفس القالب اللغوي في صورة لفظة واحدة لتختصر كل ما يقال حول ذلك من أكاذيب ، وجاء فعلها في زمن الماضي إعلاماً بأن هذا الأمر قد مضى وانتهى ، ثم كرر كلمة نفس أربع مرات وكذلك وصفها بواحدة لتأكيد المعنى .
وقد تناوبت الآيات بين الفعل ( خلقكم والفعل أنشأكم )فجاء الفعل خلق ثلاث مرات
أنشأ مرة واحدة ، فالأول مكون من ثلاثة أحرف والثاني من أربع أحرف ، فكان الثلاثي أكثر لتتحقق فيه صفة الحكم على البشر في كلمة واحدة أحرفها أقل ، وتلك طبيعة الحكم الصادر على الشيء بأن عبارته أوجز ، فكان الفعل الأكثر تكراراً هو الأقل عدداً في الأحرف ( خلق ) وتأتي باقي العبارة
(من نفس واحدة ) فنجد أنه استخدم حرف الجر ( من ) دون غيره للتعبير عن مصدر الخلق وهو نفس آدم ، لماذا ؟ .
إن ( من تجئ للتبعيض ولبيان الجنس ولابتداء الغاية في غير الزمان كثيرا ، وفي الزمان قليلا (1)ً ومن بين معاني ( من ) يكون المعنى هنا للتبيعض حيث يشير إلى أنها بعض هذه النفس فكل أبناء آدم بعض من نفسه .
ثم تأتي كلمة (نفس ) لتطرح سؤالاً كبيراً ، هل هذا الجزء الذي خلقت منه حواء ، أهو جزء من النفس أم من الجسد ؟
لقد أجمع المفسرون على أنه خلق حواء من ضلع آدم قال الطبري ( خلقكم من نفس واحدة يعني آدم ثم خلق منها زوجها حواء خلقها من ضلع من أضلاعه (2)
إذن كيف يقول الحق تبارك وتعالى ( من نفس واحدة ) وهو من جسد آدم ؟
هذا من باب المجاز المرسل حيث أطلق الكل وأراد الجزء ( علاقة كلية ) فالنفس يقصد بها الإنسان كله
جسده وروحه ، فأطلق الكل ( النفس ) وأراد الجزء ( ضلع آدم ) وهذا أيضاً كما يقول أصحاب المعاجم أن كلمة نفس يقصد بها الروح والجسد ففي كتاب التكملة والذيل والصلة لما فات صاحب القاموس للزبيدي ( النفس بالفتح الإنسان جميعه : روحه وجسده ، إنما عبر بها عن الجملة لغلبة أوصاف الجسد على الروح حتى صار يسمى نفسا ) (3)
(كلمة واحدة ) جاءت لتأكيد فكرة محددة وهى أن المصدر الذي أتت منه الأنفس جميعاً هو نفس واحدة ( نفس آدم ) ولهذا كان الحكم على بني إسرائيل بأن من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً بالعودة إلى المصدر حيث تساوت هذه النفس المقتولة في المكانة والعظمة عند الله بالنفس الأولى ( نفس آدم )
1 ـ شرح ابن عقيل 2/17 المكتبة العصرية صيدا ـ بيروت
2 ـ الطبري 13/198 المكتبة التوفيقية القاهرة
3 ـ التكملة والذيل والصلة للزبيدي مجمع اللغة العربية ج 3 / 46
وكأن هذه النفس المقتولة شعبة من النفس الأولى من حيث التمام والكمال في التكوين ، وهذا حق
فكل الأنفس تطابق نفس آدم تماما بكل صفاتها فيكون مجمل المعنى المنشود من العبارة ( أن النفس التي خلق منها البشر جميعاً هى نفس آدم ) وأن هذا الخلق من صنع الله ، وأنه عبر عن خلق البشر وتناسلهم
من مصدر واحد أتى منه جميع البشر بكلمة واحدة هى ( نفس ) ، ولا يفهم من ذلك إلا أنه إعجاز من الله ، حيث جعل الأنفس جميعاً تأتي من نفس واحدة ، ويجعل السؤال حول كنه النفس وماهيتها محيراً .
ثانياً : الاختلاف بين الآيات :
رغم اتفاق هذه المجموعة من الآيات السابقة في إصدارها حكماً واحداً ، وهو أن الله الذي خلقنا من نفس واحدة إلا أن هذه الآيات تختلف فيما يحيط بهذا القالب اللغوي
[ هو + الذي + خلقكم + من + نفس + واحدة ]
[ مبتدأ + خبر (اسم موصول) + صلة الموصول (جملة فعلية )+ حرف جر + اسم مجرور +صفة مجرورة ]


فعل فاعل مفعول
وهذا الشكل العام للتركيب الخاص بهذه الجمل إلا أن هناك ثلاث جمل من بين الأربع جمل والتي جاءت في هذا الشكل اتبعت بما يعرف بخاتمة الآية ، والحدث عن حواء قائلا : وجعل منها زوجها ـ ثم جعل منها زوجها ـ وخلق منها زوجها وجاءت الآيات بهذا الشكل لتفيد الترتيب في مراحل الخلق ، وتشير إلى المرحلة التالية لخلق آدم ، فحوت أدوات توضح ذلك منها .
1 ـ الثلاث جمل تحتوي على ضمير واحد هو ( ها ) يعود على النفس [ منها < من + ها ]وهو يوضح أن هذه النفس ( نفس آدم ) هى مصدر الخلق التالي لآدم < حواء .
فيظهر أمر التناسل في البشر منذ أخذ فرع من آدم لخلق حواء ( ضلع منه )وهو نوع من التكاثر موجود بين النبات ، فيصبح مصدر الخلق جميعا ( آدم ) رغم كثرتهم .
2 ـ استخدم في الثلاث جمل كلمة واحدة إشارة إلى حواء ( زوجها ) وهذا لأنه يشير إلى شخص واحد في هذه الجمل ، فلا يصح التنويع خشية التضليل ، فكانت أسماء الأشخاص ثابتة : آدم = نفس ( زوجها ) + حواء .
3 ـ التنوع في الفعل : ( جعل )جاء مرتين ، ( خلق ) مرة واحدة ، كان جعل مرتين ليشير إلى التحول في الخلقة من حيث النوع من ذكر إلى أنثى ، ثم جاء الفعل خلق ليذكرنا بأن إيجاد حواء خلق كخلق آدم
، وصناعة تماثل صناعته الأولى ولهذا تحتاج إلى هذا الإيجاد الثاني ولكن من نتفس مادة المخلوق الأول ، حتى لا ينفر منها ، بل يأنس إليها ، ويتم التآلف بينهما .
ثم كان الفاعل في الثلاث جمل واحداً ، وهو الله سبحانه وتعالى والمفعول واحد ( المخلوق ) حواء
4 ـ حرف العطف بين الجملتين : خلقكم من نفس واحدة + [ وجعل منها ـ ثم جعل منها ـ وخلق منها ] يشير هذا التنوع بين الواو وثمإلى اختلاف بين الجمل الثلاث في المواضع المختلفة منها ، فهي بين الواو ،وثم ، ولا اختلاف بين المفسرين في الواو ، حيث هي للعطف فقط ، فهي تجميع أنواع العطف ( اختصت الواو ـ من بين حروف العطف ـ بأنها يعطف بها ، حيث لا يكتفي بالمعطوف عليه ) (1)
أما ( ثم ) فحولها خلاف كبير ‘ فعلم الدين السخاوي يقول ( فإن قلت ما وجه دخول ثم في قوله ثم جعل منها زوجها ، قلت هما آيتان عظيمتان دالتان على قدرته ووحدانيته ، ثم شعب هذا الخلق الكثير الذي لا يحصر من رجل واحد ، ثم خلق الزوجة من الرجل ، وجعلها من جنسه ليكون الأنس أتم .....فعظمها بثم للدلالة على أنها أتم في كونها آية ، فهو من التراخي في الترتيب ، وقيل التقدير : خلقكم من نفس وجدت ، ثم شفعها الله تعالى بزوج ، وقيل أخراج ذرية آدم من ظهره كالذر ، ثم خلق بعد ذلك حواء (2)
فقد أفادت ثم هنا الترتيب مع التراخي ، وفي هذا القول الأخير للسخاوي نرى كيف كان خلق البشر جميعا من آدم وحده ، رغم أن التناسل لا يتم إلا من ذكر وأنثى ‘ فقد خلق آدم أولا ، ثم خرجت منه ذريته ، ثم خلقت حواء من قصيراه ، ثم تتابع التناسل منهما معاً .
ويقول الرازي ( فإن قيل كيف يقول هذا والزوج مخلوق قبل خلقهم ؟ قالوا إن كلمة ثم كما تجئ لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية ، فكذلك تجئ لبيان تأخر أحد الكلامين عن الآخر ، كقولك : بلغني ماصنعت اليوم ، ثم ما صنعت الأمس كان أعجب ( 3 )
وهو ما قاله من قبله الطبري من أن العرب ربما أخبر الرجل منهم عن رجل بفعلين ، فيرد الأول منهما في المعنى ب( ثم ) إذا كان من خبر المتكلم ، كما يقال : قد بلغني ما كان منك اليوم ، ثم ما كان منك أمس أعجب
1 ـ شرح ابن عقيل 2/208
2 ـ تفسير القرآن العظيم للسخاوي 2/1210 رسالة دكتوراة جامعة الفيوم كلية دار العلوم
3 ـ التفسير الكبير 13/223
،فذلك نسق من خبر المتكلم (1) ولكن الطبري نفسه يأخذ برأي آخر هو [ والقول الذي قاله أهل العلم أولى بالصواب وهو أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه قبل أن يخلق حواء ] (2) وهذا يعني أن ثم أفادت الترتيب مع التراخي بين الحدثين خلق آدم وخلق حواء ، ليكو ن بين ذلك إخراج ذرية آدم من9 فيما بين الحدثين .
ثالثاً : مكملات الآيات :
تختلف الآيات السابقة من حيث الإطار الذي ترد فيه في كل موضع ، مما يدل على أن هذا التكرار لم يأت عبثا ، بل جاء في إطار سياقات مختلفة لكل سياق هدفه الخاص ، ما بين الإيجاز في عرض القضية ، والإطالة في توضيح كل جوانبها مع الربط بين هذه القضية والموضوع الخاص بهذا الموضع .
أ ـ الإيجاز :
1 ـ ( هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ) ( الأنعام 6/98)
وهنا نرى ايجازاً شديداً في عرض القضية ، كما يقول القطبي ( هو الذي أنشأكم من نفس واحدة ) يريد آدم عليه السلام ...... قال ابن مسعود : فلها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها....وأكثر
أهل التفسير يقولون : المستقر ما كان في الرحم والمستودع ما كان في الصلب (3)
ورغم الاختلاف في معنى المستودع ، فهذا الكلام يشير إلى بداية الخلق ونهايته بايجاز شديد ، لأن هذا الكلام ورد في إطار تعدد دلائل قدرة الله في موضع يحتاج إلى الإيجاز يقول الفخر الرازي ( هذا نوع رابع من دلائل وجود الإله وكمال قدرته وعلمه وهو الاستدلال بأحوال الإنسان فنقول لا شبهة في أن النفس الواحدة هى آدم وهى نفس واحدة ، وحواء مخلوقة من ضلع من أضلاعه فصار كل الناس من نفس واحدة وهى آدم (4)
إذن فقضية خلق الناس جميعا من نفس واحدة ، استقرت بالرحم ، وانتهت بالقبر ضمن قضايا الإعجاز الإلهي لا يحتاج الموضع أكثر من هذا مع الحفاظ على القالب اللغوي الذي يتكرر في كل آية من الآيات الأربعة [ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ]
2 ـ [ خلقكم من نفس واحدة ، ثم جعل منها زوجها ] الزمر 39/6
وقد جاءت هذه الآية في نفس الإطار الذي ذكرناه آنفا وهو إطار تعدد إعجاز الله وآيات قدرته يقول فخر الدين الرازي (إنه تعالى أتبع ذكر الدلائل الفلكية بذكر الدلائل المأخوذة من هذا العالم الأسفل ، فبدأ بذكر الإنسان ( خلقكم من نفس واحدة ، ثم جعل منها زوجها ) ودلالة تكون الإنسان على الإله المختار قد سبق بيانها مراراً كثيرة ...... واعلم أنه تعالى لما ذكر الاستدلال بخلقه الإنسان على وجود الصانع ذكر عقيبه الاستدلال بوجود الحيوان عليه فقال ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ، وهى الإبل والبقر والضأن والمعز وقد بينا كيفية دلالة هذه الحيوانات على وجود الصانع(5)

1 ـ الجامع لأحكام القرآن 13/198
2 ـ المرجع السابق 13/198
3 ـ المرجع السابق 7/299
4 ـ التفسير الكبير مجلد 7/ص84 ـ 86
5 ـ المرجع السابق مجلد 13/ص224
وهذا الكلام يوضح أن في الآيتين إيجاز فرضه موضع الحدث ،وهو تعدد آيات قدرة الله وكمال صنعه ، مع الحفاظ على القالب اللغوي هنا أيضا ( خلقكم من نفس واحدة ) ، ثم جاءت زيارة استدعاها أيضاً سياق الحديث في سورة الزمر عكس ما في الأنعام ، وهى قوله( ثم جعل منها زوجها ) سوف يستفيض فيه في باقي الآيات بعد ذكر الأنعام ، فهو تفصيل أتى بعد الإجمال وهو قوله في نفس الإية ( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث
ب ـ الإطالة :
1 ـ قال تعالى ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) النساء4/1
هذه آية واحدة ذكر فيها الحق تبارك وتعالى بدء خلق الإنسان من آدم ، ثم انتشار النسل بعد خلق حواء منه ، فخلق رجالاً ونساءً كثيرا ، وجاءت ضمن أمر وجهه الله لعباده وهو التقوى ، وقد جعل الحق تبارك وتعالى هذا المطلع لسورتين كما قال الرازي ( في سورة النساء وسورة الحج وهو قوله ( يا أيها الناس اتقوا ربكم ) ، ثم أنه علل الأمر بالتقوى في هذه السورة بما يدل على معرفة المبدأ ، وهو أنه تعالى خلق الخلق من نفس واحدة ، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه....، وعلل الأمر بالتقوى في سورة الحج بما يدل على كمال معرفته بالمعاد ، وهو إن زلزلة الساعة شيء عظيم ، فجعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ، وقدم السورة الدالة على المبد أعلى السورة الدالة على المعاد ...اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقيبه أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ،وهذا مشعر بأن الأمر بالتقوى معلل بأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، ولابد من بيان المناسبة بين هذا الحكم وبين ذلك الوصف ، فنقول قولنا أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، يشتمل على قيدين أحدهما أنه تعالى خلقنا ، والثاني كيفية ذلك التخليق ، وأنه تعالى إنما خلقنا من نفس واحدة ولكل واحد من هذين القيدين أثر في وجوب التقوى ) (1)
هذا القول للرازي يربط فيه بين الأمر المذكور في أول الآية ، والوصف الذي ذكر فيه قدرة الله على الخلق بما يستوجب علينا تقواه ، ثم لتمام عظمة هذا الحدث ( خلق آدم ) تطرق الحديث إلى حواء ، ثم السلالة التي جاءت منهما ، ثم الحث على التقوى بتكرار الفعل ( اتقوا ) مرة أخرى مشيراً إلى شيء من جنس خلق آدم وحواء وأبنائهم ، وهو ما بينهم من صلة رحم ، فهم من آدم وحواء وبينهم هذا النسب الأصيل ، فيجب أن يحافظوا على تلك الصلة التي بينهم ويتقوها
ويناقش التركيب اللغوي لهذه الإضافة ( وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ) قائلاً ( لم يقل : وبث منهما الرجال والنساء ، لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك مجال ، فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله ( وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ) فإن قيل : لم لم يقل وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً وكثيراً ؟ ولم خصص وصف الكثرة بالرجال ودون النساء ؟ قلنا : السبب فيه ، والله أعلم ، أن شهرة الرجال أتم ، فكانت كثرتهم أظهر فخصوا بوصف الكثرة (2)
1 ـ التفسير الكبير مجلد 5/135
2 ـ المرجع السابق مجلد 5 /138
إذن فالإطالة هنا لغرض ما ، وهو توضيح عملية التكاثر والتناسل بين البشر من البداية ( آدم ) ، ثم حواء ، ثم بث منهما الرجال والنساء . ( فإن قيل كيف يصح أن يكون الخلق أجمع من نفس واحدة مع كثرتهم وصغر تلك النفس ؟
يقول فخر الدين الرازي : ( قلنا قد بين الله المراد بذلك لأن زوج آدم إذا خلقت من بعضه ، ثم حصل خلق أولاده من نطفتهما ، ثم كذلك أبداً ، جازت إضافة الخلق أجمع إلى آدم (1)
وهذا يعني صحة القول : ( من نفس واحدة ) ليطلق على كل البشر ، فكانت هذه الآية تفصيلاً وتوضيحا لكيفية أن الله خلقنا من نفس واحدة ، كل هذا التوضيح مع الحفاظ على القالب اللغوي في الآية [ الذي خلقكم من نفس واحدة ] كما في الآيتين السابقتين
2 ـ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منهما زوجها ليسكن إليها ، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به ، فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ، فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ، فتعالى الله عما يشركون ) الأعراف 7/189 ، 190
هذه الآية أكثر طولا ، وقد تعرضت لعملية الخلق بتفصيل أكثر من سابقتها ، حيث أشارت إلى خلق الإنسان منذ بدايته من آدم ، ثم خلق حواء ، ثم عملية التناسل بين البشر بداية بالجماع الذي أوجد الإنسان من نطفة ، ثم حمله ، وولادته ، كل هذا التفصيل ليوضح فضل الله على البشر وحفظه لهم في كل هذه المراحل ، ليقول في النهاية : فإذا هم يكفرون بي بعد هذه الفضائل والتجليات التي مننت عليهم بها ، فكان يجب الإطالة في هذا المقام حتى تنتفي العلة في الكفر بعد تلك الآيات المعجزة
قال السخاوي موضحا الرابط بين الآية الأولى والثانية ( وقيل هو الذي خلقكم يا معشر العرب من نفس واحدة ، وهى قصى ، وجعل من جنسها زوجها إلى أن قال : جعلا له شركاء فسموا أولادهم عبد مناف وعبد شمس وعبد الدار ، وهذا مال إليه الزمخشري ، وهذا لا يبقى عليه سؤال إلا بعد اللفظ عن إرادة قصى بن كلاب بن مرة ) (2)
ويؤكد هذا الرأي ما نجده لدى الرازي رداً على من قال : إن المقصود بهذا القول آدم وحواء فهما اللذان دعوا الله ، ثم جعلا لله شركاء فيما آتاهما ، قال : ( إن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه
الأول : أنه تعالى قال ( فتعالى الله عما يشركون ) ، وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة
الثاني : قال بعده ( أيشركون مالا يخلق شيئاً وهم يخلقون ) مما يدل على أن المقصود الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى
الثالث : لو كان المراد أبليس لقال : أيشركون من لا يخلق شيئاً ، ولم يقل : مالا يخلق شيئاً ، لأن العاقل : إنما يذكر بصيغة ( من ) لا بصيغة ( ما ) (3)

1 ـ المرجع السابق 5/137
2 ـ التفسير الكبير مجلد 8 ص71
3 ـ الكشاف 2/109
وذكر إلى جانب ذلك أسباباً أخرى يرد بها هذا الرأي ، والذي نلاحظه هنا ونقلناه من قوله في الرد استخدامه وسائل لغوية لتوجيه الآية ، واختبار رأي ما في تفسير الآية ، ثم يذكر تأويل القفال ( فقال : إنه ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل ، وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم ، وقولهم بالشرك ، وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة ، وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويها في الإنسانية ، فلما تغشى الزوج زوجته، وظهر الحمل دعا الزوج والزوجة ربهما ، لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكوننً من الشاكرين لآلائك ونعمائك ، فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سويا ، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما ،
لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع .......وتارة إلى الكواكب .....وتارة إلى الأصنام (1)
وكل هذه المجموعة من الآيات (أ) نجد القالب اللغوي يتكرر وهو ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) إشارة وتذكرة لهذا الفضل ، وحكم له بالإعجاز في خلق كل البشر من شيء واحد في البداية ، ثم خلق الشريك الآخر لتتم عملية التكاثر والتناسل من نقطة البدء هذه ( آدم ) ، وتلك معجزة أخرى بعد البدء ، وهى عملية التكاثر إن عملية الخلق بهذه الخاصية ( التكاثر ) لم يصنعها أحد من قبل أو من بعد سوى الله وتلك قمة الإعجاز في خلق البشر ، ولهذا لا يتحدى بالبعث لأن البدء أصعب من الإعادة بالبعث .
المصاحبات اللغوية لبيان المعنى :
وهذا المعنى الإعجازي قد بينته الآيات السابقة بمكملاتها وبواسائلها اللغوية المختلفة فمنها :
1 ـ استخدام قالب لغوي واحد لتأكيد المعنى ، وإظهاره في صورة حكم قاطع يسهل تكراره ، وهو قوله ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) وقد تكرر في أربع آيات من القرآن الكريم .
2 ـ استخدام كلمة نفس للإشارة إلى آدم دون غيرها من الكلمات مثل رجل أو إنسان للإشارة إلى الجانب الحي في الإنسان ، وهو عنصر التنفس الذي هو أساس الحياة ، فقد خلقكم من شيء حي ، يتنفس ، فمن فقد التنفس فقد الحياة ، والقدرة على التوالد ، فكان التعبير بالنفس أدق .
3 ـ وصف النفس بالواحدة للتأكيد على جانب الإعجازي في الخلق ، فكل الخلق جاء من نفس واحدة هى آدم، ثم خلق حواء من آدم ، فالناس جميعاً خلقوا قبل خلق أمهم حواء ، ولذلك قال بعدها : ( وخلق منها زوجها ) من آدم ، ثم خلق بعد ذلك حواء ، فمن ممن يدعى أنه إله قد فعل ذلك ؟ وهو سبحانه يتحدى بهذه العملية ( الخلق ) كل من أشرك به ، ولكنهم لا ينكرون ذلك رغم شركهم .
1 ـ المرجع السابق المجلد الثامن ج 15 ص72
4ـ تكرار هذه الآيات التي فيها إشارة إلى أنه خالق الخلق ، مما يدل على أنه يعتز بصناعته ، وهى خلق الناس من نفس واحدة ، وحق له أن يعتز ويفتخر ويقسم بما صنع
5 ـ استخدام الضمير ( هو ) بدلا من أنا ، ومن لفظ الجلالة ( الله ) هو تعظيم لا يدركه إلا من أنار الله بصيرته ، وحيث يعني الضمير ( هو ) الإشارة إلى الحاضر الغائب ، فهو سبحانه الحاضر في كل صنعة صنعها ، وعلى رأسها خلق الناس من نفس واحدة ، والغائب عن عيون خلقه العاجزة عن أن تبصره لضعف إيمانها فلو آمنت به حق الإيمان لرأته في كل ما خلق .
وأيضا لإثارة انتباه السامع بالبحث عن العائد عليه الضمير ( هو ) في الجملة . 6 ـ استخدام ضمير المخاطب ، وميم الجمع في خلقكم ، للإشارة على عموم البشر ، وتوجيه الخطاب إليهم وليصبح الخطاب موجهاً مباشرة إليهم وبدون وسيط ، ولهذا وجب عليهم الرد بالنفي ، إذ ا كان هناك خالق غيره ، ولم يحدث ، فثبت بذلك أحقيته في أنه الخالق سبحانه وتعالى
7 ـ جعل الاسم الموصول خبراً ، وهو المعروف بافتقار ه إلى جملة الصلة ، فكان عنصر تشويق لمعرفة جملة الصلة ، وإزالة الإبهام عن الاسم الموصول بقوله ( خلقكم ) ، وجعلها فعلية للدلالة على الحدث
وهو الخلق ، وفعلها ماض للدلالة على انتهاء هذا الحدث .
8 ـ جعل تبارك وتعالى الإعجاز في شيئين عبر عنهما بكلمتين ، الأولى : خلقكم ، والثانية من نفس واحدة ، فكانت الأولى تعبيراً عن الحدث المعجز ، وهو أنه سبحانه خلقنا ، وهذا الفعل المعجز لم ينسبه أحد لنفسه سوى الله ، والثانية أن هذا الخلق جميعه جاء من نفس واحدة ، وتلك معجزة أخرى ، وهى القدرة على التوليد للأشياء من شيء واحد ، لم يصنعها أي صانع أو خالق سوى الله .
المجموعة ( ب ) ما يتصل بالبدء من آيات

1 ـ الشمس 91/7 ( ونفس وما سواها )
هذه الآية تتصل بأمر خلق الإنسان وبالنفس الإنسانية ، فنجد الحق تبارك وتعالى يقسم بالنفس لعظمتها عنده ، وأعظم ما فيها خلقها وصناعتها ، ولهذا أقسم بعملية الخلق بعد القسم بالنفس ، يقول القرطبي ( سواها : سوى خلقها وعدل ، وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم ، أقسم جل ثناؤه بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه (1)على أن المراد بالنفس آدم كما قال الألوسي (2) ، ورأى الرازي أن تنكير النفس فيه وجهان ، أحدهما أن يريد به نفساً خاصة من بين النفوس ، وهى النفس القدسية النبوية ، .....ونفس إشارة إلى تلك النفس التي هى رئيسية لعالم المركبات رياسة بالذات، الثاني : أن يريد كل نفس ، ويكون المراد من التنكير التكثير عل الوجه المذكور في قوله ( علمت نفس ما أحضرت ) ( 4 )
ويذكر الطبري رأياً أخر في النفس قائلاً ( يعني جل ثناؤه بق
المشرف العام
المشرف العام
Admin

عدد المساهمات : 29
تاريخ التسجيل : 13/06/2010

http://almadawe.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

العلاقة بين الدلالة والتركيب . دراسات تطبيقية لبعض آيات النفس في القرآن الكريم أ. د  عطية سليمان أحمد الجزء الأول Empty العلاقة بين الدلالة والتركيب . دراسات تطبيقية لبعض آيات النفس في القرآن الكريم أ. د عطية سليمان أحمد الجزء الثانى

مُساهمة  المشرف العام الإثنين 14 يونيو 2010 - 12:08

اسمها ( الموت ) خبرها ( إلا بإذن الله )
يقول الرازي في إعراب ( كتاباً مؤجلا ) منصوب بفعل دل على ما قبله ، فإن قوله ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ) قام مقام أن يقال : كتب الله ، فالتقدير كتب الله كتاباً مؤجلا ) وانظر قوله ( كتاب الله عليكم ) (2)

1 ـ البيان في غريب إعراب القرآن 1/223
2 ـ التفسير الكبير مجلد 9ص20
فلماذا عدل عن ذلك التركيب إلى تركيب آخر ؟
لقد استخدم الحق تبارك وتعالى تركيباً لغوياً معيناً يقوم على القصر كنوع من أنواع الأساليب البلاغية
، لقصر الموت على أن يكون إلا بإذنه ، فلو جاء التركيب بالصورة البسيطة التي طرحها النحاة لما كان لها هذه القوة في المعنى ، ولإصدار الحكم القاطع الشامل لكل نفس ، يقول القرطبي ( اعلم أن الموت لابد منه ، وأن كل إنسان مقتول أو غير مقتول ميت إذا بلغ أجله المكتوب له ، لأن معنى مؤجلا إلى أجل ، ومعنى بإذن الله بقضاء الله وقدره ......وأجل الموت هو الوقت الذي في معلومه سبحانه ......وقد بين الحق في هذه الآية أنه لا تهلك نفس قبل أجلها
1 ـ الجامع لأحكام القرآن 4/ 577

إلى جانب ذلك فقد جاءت كلمات العبارة حاملة لكثير من المعاني فحدث التوافق بين كلمات العبارة والمعاني التي تدل عليها كما نلاحظ في كلمات :
أ ـ ( نفس ) وقد أوضحت أن الموت شامل لكل من يتنفس من حيوان ونبات وإنسان
ب ـ ( كتاب ) أوضحت أنه أنه شيء مدون ومسجل انفكاك منه ( أي الأجل )
ج ـ ( مؤجلا ) أكدت فكرت التدوين والتسجيل لساعة الموت بأنه مسجل بأجل معين .
د ـ ( الله ) اختار الحق تبارك وتعالى كلمة الله ، دون أسمائه جميعاً ليخلو حكم الذات الإلهية من أي معنى سوى الحكم فلا يحمل معه معنى الرحمة ( بإذن الرحمن ) أو الشدة والقهر كما لو قال ( بإذن الجبار ) ، بل أراد أن : يقول إنه حكم صادر على كل الخلائق بإذني أنا الله ، فلم استثنى من ذلك أحداً حتى حبيبي ( محمد صلى الله عليه وسلم ) فهو ميت أيضاً
هـ ـ ( كان ) أفادت أن هذا الحكم صدر ، ونفذ في كل من مات ، فلا ميت فيمن ماتوا إلا بإذن الله .
و ـ ( اللام ) أفادت الملكية فما كانت نفس تملك الحكم ، أولها الحكم في تحيد ساعة موتها .
ز ـ عبر بالمصدر المؤول من أن المصدرية والفعل المضارع عن اسم كان ، أي الموت يشير إلى استمرار الموت
في الحاضر والمستقبل بإذن الله ، فهناك فرق بين عملية الموت وحكم الموت فعملية الموت مستمرة
قديماً وحالياً ومستقبلاً فعبر عنه بالفعل تموت ، وحكم الموت صدر مسبقاً ، وقيل في اللوح المحفوظ أن كل نفس ذائقة الموت ، ولهذا كان التعبير عن انتهاء صدور الحكم بالفعل كان .
ح ـ قدم الجار والمجرور ( لنفس ) على اسم كان ، وهو المصدر المؤول من أن والفعل ( الموت ) لأهمية الجار والمجرور الذي يشير إلى عدم ملكية النفس لهذا الحكم ، وهو أذن الموت ، على اسم كان نفسه ( الموت )
الآية الثانية
( ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها )
تأكيد على نفس النكرة وهى أن لكل أجل كتاب ، وأن لكل نفس لحظة تموت فيها لا تحيد عنها ، وهنا
جاء التركيب منفياً ـ كما في سابقه ـ ليقطع على المستمع أي فرصة للجدال في قضية التقديم أو التأخير ساعة الموت فبدأ بالنفي المستقبلي ( بلن ) واختار التأخير عن التقديم لأن النفس تحب البقاء في الدنيا ، وهو مطلب عام ـ غالباً على كل الأنفس .
والرابط بين الآيتين إلى جانب الحديث عن الموت ـ قضية الأجل ، فهناك ( كتاباً مؤجلا ) وهنا ( أجل )
فاستخدام هذه الصيغة في الآيتين له دلالة لا يمكن إغفالها ، وهى المشابهة بين الصيغتين والاختلاف الدلالي الكبير بينهما هو أن الأولي( مؤجل )
اسم مفعول وتعني محدداً ، والثانية مصدر على وزن ( فعل ) وبمعنى لحظة موتها .
النهي عن قتل النفس
الحق تبارك وتعالى خلق النفس الإنسانية ، وأقسم بها لعظمة ما صنع ، ونه عن قتلها إلا بإذنه أي بالحق ، ولهذا اوردت الآيات تعلن عن ذلك ، أي النهي عن قتل النفس في أكثر من موضع ، منها
1 ـ ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) الأنعام 6/151
2 ـ ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ومن قتل مظلوماً جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل ، إنه كان منصوراً ) الأسراء 17/33
3 ـ ( ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق أثاما ) ) الفرقان 25/68
قال الطبري ( يعني بالنفس التي حرم الله قتلها : نفس المؤمن أو معاهد ، وقوله ( إلا بالحق ) يعني بما أباح قتلها به من أن تقتل نفساً فتقتل قودا بها ، أو تزني وهى محصنة فترجم ، أو ترتد عن دينها الحق قتقتل ، فذلك الحق الذي أباح الله قتل النفس التي حرم على المؤمنين قتلها به ( 1 )
لو نظرنا إلى هذه الآيات الكريمات نجد أنها جميعاً أتت في قالب لغوي واحد ، لأنها تصدر حكماً قاطعاً واحداً ، وهو النهي عن قتل النفس إلا بالحق ، فجاءت على الصورة الآتية :
1 ـ الطبري المجلد الخامس ج8 ص88
( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق )
واو العطف + لا الناهية + فعل مضارع + واو الجماعة فاعل + المفعول ( النفس ) + اسم موصول ( التي )
فعل ماضي ( حرم ) + الفاعل ( الله ) + إلا + جار ومجرور ( بالحق )
و + لا + تقتلوا + النفس + التي + حرم + الله + إلا + بالحق
و + لا الناهية + فعل مضارع + فاعل + مفعول + اسم موصول + فعل ماض + فاعل + إلا جار ومجرور
فجاء هذا التركيب بتلك الصورة ليبين حكماً قاطعاً ، فكان التفسير للبناء اللغوي هو :
1 ـ النهي المطلق عن قتل النفس ب لا الناهية لكل الناس بعدم قتل أي نفس من الناس
2 ـ الفعل المضارع ( تقتلوا ) للمخاطب بلفظ الجمع لاستمرا النهي ، ولتوجيه الخطاب لكل المسمعين من البشر ،
أما الآية في الثالثة ، فإن السياق استوجب أن يكون الخطاب للغائب ، وليس للمستمع ـ كما في الآيتين السابقتين ، فقال فخبراً عن عباد الرحمن بأنهم لا يقتلون النفس ، ولهذا استبدل لا الناهية ب ( لا) النافية هنا ، فقال : ( لا يقتلون النفس ......) إخباراً عنهم
3 ـ أتى الفاعل ملتصقاً بالفعل مما استوجبته طبيعة التركيب ( أسلوب نهي ) ليوضح أن هذا النهي موجه إلى المخاطب شخصياً ، فلا يدخل فاصل بين الفعل والفاعل ، فتدخل معه الشبهات والتأويلات ، في المقصود بالنهي ؟ ذلك أنه حكم قاطع فاصل وأمر لا نقاش أو جدال فيه يستوجب التنفيذ لا التفكير والتأويل ، وكذلك الوضوح في الحكم ببيان الفاعل والمفعول
4 ـ ثم أتى المفعول واضحاً جلياً لا يحتاج إلى تأويل أو تفسير وذلك لأنه أتى بالاسم ( النفس ) ، ولم يأت بالضمير الظاهر أو المستتر ، فتكثر الآراء حول الاسم العائد عليه الضمير
5 ـ ثم يأتي الاسم الموصول يوضح المقصود بالنفس ، لأن كلمة النفس ربما يدخل في معناها كل ما تنفس من حيوان وغيره .
وهنا يكون الخطاب محدداً لا شاملا لكل الأنفس ، مما يحق قتله كالوحوش ، فالمقصود بالنفس هنا النفس الإنسانية ، التي أطلق عليها حكم النهي عن القتل
6 ـ ثم تأتي صلة الموصول ، وهى جملة فعلية فعلها ماض ، في حين أن الفعل الأساسي للجملة
( تقتلوا) مضارع لأن الحكم بالتحريم سبق فعل القتل ، فقد صدر حكم الله بتحريم قتل النفس فقال( حرم الله ) أي حدث ذلك منذ الأزل ، أما فعل القتل فهو مستمر منذ أن قتلا ابن آدم أخاه حتى تقوم الساعة ، ولهذا وجب أن يكون النهي بالفعل المضارع لا الماضي .
7 ـ وذكر الفاعل التحريم بينا جلياً وهو ( الله ) بلفظ الجلالة ليوضح مصدر التحريم ، وصاحب الحكم ، والأمر، فلا تدخل في نفوس البشر الشبهات حول مصدر التحريم
8 ـ ثم يأتي الاستثناء بإلا لنفهم أن هذا الحكم له استثناء ، وهذا الاستثناء أوجب منع القتل ، وغلق الباب أكثر وذلك بتوضيح أن من يفعل ذلك يكون عقابه نفسه أغلى ما يملك ، فيحيا من كان سيقتل لوجود العقاب ، ولهذا قال تعالى ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) البقرة 178
فالقصاص حياة لأنه سيمنع شيوع القتل ، وختمها بالنداء على الموجه إليهم هذا الخطاب وهم أصحاب العقول فقط ، لأنهم سيدركون الحكمة من القصاص لو تفكروا فيها
9 ـ أما خاتمة القالب اللغوي ( بالحق ) وهنا بلاغة الإيجاز القرآني في استخدام كلمة الحق للإشارة إلى كل الحالات التي يجوز فيها قتل النفس ، واستخدام كلمة الحق للدلالة على أن هذا الفعل حق ، وليس ظلماً ، بأن يحكم القاضي بقتل نفس قتلت أخرى .
الفصل الثاني
( صفات النفس الإنسانية )
أولا : الجزاء والكسب
يعرض لنا القرآن الكريم صدراً للنفس الإنسانية وطبيعتها ، فبعد أن رأينا كيف بدأت ، وكيف تموت ‘ بقى أن نعرف طبيعتها، وسلوكها في الحياة ، وما يستتبع ذلك من ثواب وعقاب في الآخرة .
1 ـ الجزاء في الآخرة :
النفس الإنسانية حرة في سلوكها في الدنيا ، ولكنها وحدها المحاسبة على هذا السلوك في الآخرة ، ولهذا تكررت الآيات التي توضح هذا الأمر : كما في قوله تعالى في المجموعة الاولى
1 ـ ( ليجزى الله كل نفس ما كسبت ) إبراهيم 14/51
2 ـ ( لتجزى كل نفس بما تسعى ) طه 20/15
3 ـ ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ) غافر40/17
4 ـ ولتجزى كل نفس بما كسبت ، وهم لا يظلمون ) الجاثية 45/22
المجموعة الثانية
1 ـ ( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) البقرة 2/281
2 ـ ( ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) آل عمران 3/25
3 ـ ( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) آل عمران 3/161
4 ـ ( وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون ) النحل 16/111
5 ـ ( ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ) الزمر 39/70
الحديث في المجموعتين عن حساب النفس في الآخرة ، وقد جاءت المجموعتان في قالبين لغويين متشابهين يتمحوران حول معنى واحد هو أن كل نفس تجزي بما عملت .
المجموعة الأولى : ( المصاحبات اللغوية لبيان المعنى )
( أ ) نجد هذه المجموعة تأتي في قالب واحد هو تجزى كل نفس بما كسبت ) وهم لا يظلمون
فعل + فاعل + مضاف إليه + ب + ما الموصولة + جملة الصلة
1 ـ الفعل : في هذه المجموعة جاء الفعل الأساسي للجمل كلها ( تجزى ) إشارة إلى هذه دار الجزاء على العمل ، فيمنح كل فرد أجره على عمله ( هنا ) ، والجزاء كان إشارة إلى الثواب والعقاب ، فالجزاء لا يكون بالثواب فحسب ، بل قد يكون عقاباً أيضاً ، فاستخدم الفعل يجزى لهذا السبب
2 ـ الفاعل الحقيقي لهذا الجزاء ( للفعل يجزى ) هو الله ، وإن كان ظاهراً كما في الآية الأولى ، أو محذوفاً ومعوضاً عنه بنائب الفاعل ، فالفاعل هو الله في كل الحالات ، وهو الفاعل في البنية العميقة ـ كما يقول أصحاب النحو التوليدي التحويلي ـ وهو الفاعل الحقيقي
3 ـ كل نفس كل استخدمها لتفيد الشمول لكل الأنفس ، فلا يستثنى أحداً من هذا ما دام نفساً تتنفس
4 ـ بما : جاء حرف الجر الباء للدلالة على المكافأة أو كما يسميه النحاة عوضا ( يقول ابن عقيل وتأتي
للتعويض ( اشتريت الفرس بألف درهم ومنه قوله تعالى ( أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ) (1)
فيكون الجزاء عوضاً عن العمل ومكافأة عليه بسبب وجود الباء

1 ـ شرح ابن عقيل ج3 ص23
5 ـ الفعل كسبت جاء في زمن الماضي للدلالة على أن هذا الجزء كان على ما سبق من عمل ، ومن حيث المعنى كسب بمعنى ربح ، أي أن هذا الجزاء على ما ربحه الإنسان من عمل في الدنيا ، بما يؤكد قوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن الدنيا سوق خسر فيه من خسر وربح فيه من ربح ، وكلمة ( كسبت ) أفادت أيضاً أن كل إنسان سعى واجتهد في الدنيا ضاناً أنه كسب ، فيأتي الحساب ليوضح له هل كسب فعلا أم خسر ، فهو بعد اجتهاده في الدنيا والعمل فيه لا يدري ما نتيجة عمله حتى يرى الحساب .
مكملات الآيات :
جاءت كل آية رغم تكرار القالب اللغوي ـ بشكل مختلف يجعل لكل آية صورة تركيبية دلالية مستقلة ، وينفي عنها التكرار ، فكل آية بشكلها الخاص أنسب من أختها في موضعها الذي جاءت فيه ، ولا يصلح أن تحل إحداهما محل الأخرى .
1 ـ الآية الأولى من سورة إبراهيم 48/ 49/ 50/ 51/ ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، وبرزوا لله الواحد القهار ، وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران ، وتغشى وجوههم النار ، ليجزى الله كل نفس ما كسبت ، إن الله سريع الحساب )
ذكر الحق هذه الجملة ( ليجزى الله كل نفس ما كسبت ) في وسط هذا الهول من العذاب الواقع على فيكون حكماً عادلا على ما فعلوه، قال الرازي ( قال الواحدي : المراد منه أنفس الكفار لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاءاً لأهل الإيمان ، والقول ويمكن إجراء اللفظ على عمومه ، لأن لفظ الآية يدل على أنه تعالى يجزى كل شخص بما يليق بعمله وكسبه ، ولما كان كسب هؤلاء الكفار الكفر والمعصية ، كان جزاؤهم هو هذا العقاب المذكور ولما كان كسب المؤمنين الإيمان والطاعة ، كان اللائق بهم هو الثواب أيضاً ، ثم قال تعالى (إن الله سريع الحساب ) أي أنه لا يظلمهم ، ولا يزيد في عقابهم ) (1)
ولأن العبارة ( ليجزى الله كل نفس ما كسبت ) جاءت ضمن هول ذلك اليوم أوجب هذا أن تكون على تلك الصورة التركيبية ، فجاء الفعل الأساسي للجملة ( يجزى ) مضارعاً ليواكب لحظة الحدث لأن كل الأفعال السابقة للحدث ( يجزى ) مضارعه
( تقريبا ) تبدل ـ ترى ـ تغشى ـ وكلها إشارة لما هو آت ( يوم القيامة ) ثم ربط هذا الحدث ( يجزى ) وبين ما سبقه من أحداث بلام التعليل ، فكأن كل ما حدث من أفعال قبل ذلك كان لهذا السبب أن يحاسب الله كل إنسان على فعله ، ثم أكمل هذا الحدث بقوله تعالى ( إن الله سريع الحساب ) فما سبق جزاء لكل نفس بكسبها كان في صورة سريعة لأنه لا يؤخر الجزاء واستدعى المقام أن يكون الفاعل ظاهراً لا مستتراً ،للفعل ( يجزى ) وهو الله أعلن عن نفسه باسمه لا بصيفة من صفاته أو بضمير يعود عليه سبحانه ، فالفاعل واضح ‘ وأكد الجملة التالية بإن ( إن الله سريع الحساب ) وجعل
المبتدأ فيها أيضاً ـ بلفظ صريح وهو الله اسم إن ، وكأنه تعالى يقول أنا الله الذي أجازى ، وأنا الله الذي لا يظلم ، وأنا الله سريع الحساب ، هذا ما نطق به التصريح بالفاعل ، واسم ( إن ) وهو لفظ الجلالة ( الله )
وكذلك في إطار وضوح اللفظ وصراحته لهول المقام لم يستخدم الحق حرف جر الباء في ( ما كسبت ) كما حدث في الآيات الأخرى ليصل الفعل مباشرة إلى مفعوله الثاني ( ما )
1 ـ التفسير الكبير المجلد العاشر 19/123
ـ وجاء الفعل كسبت ماضياً للدلالة على أن هذا ليس مكان العمل والكسب ، فقد مضى في الدنيا دار العمل والكسب, أما هنا فدار الجزاء على ما سيق من كسب ، فجاء الفعل ماضيا لهذا السبب
ـ وجاء الكسب في صورة الفعل ( كسبت ) ولم يقل ( ليجزى الله كل نفس كسبها ) بل دل عليه ب ( ما ) الموصولة المفسرة بجملة الصلة ، للدلالة على أنه حدث قد حدث بالفعل في ما مضى في الدنيا ، فكل نفس كسبت فعلا ، وتظل روح الحركة موجودة في الأمر من خلال الدلالة عليه بالفعل لا بالاسم ، فتستحضر كل نفس عملها ، وكأنه واقع الآن أو منذ لحظة بسيطة ، وهى انتهاء الحدث وتحوله من المضارع إلى الماضي ، لأنه الحديث عن الآخرة وليس عن الدنيا .
لقد ربط ابن عاشور بين أجزاء الصورة أو اللوحة المرسومة لعذاب يوم القيامة عن طريق التركيب النحوي لها ، فوضع عدة تأويلات لهذا التركيب ، فقال عن الآيات السابقة استئناف لزيادة الإنذار بيوم الحساب ، لأنه في هذا تبيين بعض ما في ذلك اليوم من الأهوال ، فلك أن تجعل
1 ـ ( يوم تبدل الأرض ) متعلقا بقوله ( سريع الحساب ) قدم عليه للاهتمام بوصف ما يحصل فيه ‘ فجاء على هذا النظم ليحصل من التشويق إلى وصف هذا اليوم لما فيه من التهويل .
2 ـ ولك أن تجعله متعلقا بفعل محذوف تقديره : أذكر يوم تبدل الأرض ، وتجعل جملة ( إن الله سريع الحساب ) على هذا تذيلا .
3 ـ ولك أن تجعله متعلقا بفعل محذوف دل عليه قوله ( ليجزي الله كل نفس ما كسبت )
والتقدير : يجزي الله كل نفس بما كسبت يوم تبدل الأرض .....الخ وجملة ( إن الله سريع الحساب )
تذييل أيضاً ) (1) ويتضح من هذا القول مدى الترابط بين أول الصورة وأخرها وكأنها لوحة متكاملة الجوانب ربط بين أجزائها التحليل النحوي لها ، ففسرها وأوضح مدى ترابطها معاً
( ب ) الآية الثانية سورة ( طه ) 20
( إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها ، واتبع هواه فتردى )
هنا إشارة من الحق إلى موسى في مقام التعريف برب العالمين ، فيقول أنا الله فاعبدني ، فإن الساعة آتية ، وأكاد أخفيها لعله ، هي أن تجزى كل نفس بما تسعى ، فتأخذ كل نفس أجرها حسب سعيها : فكان لتركيبها مطابقا لهذا المقام
1 ـ ( إن ) بدأت القصة بها للتأكيد على أن الساعة قادمة لا محالة .
2 ـ أكاد أخفيها لتجزى كل نفس ) وهو تعليل لحدث الإخفاء .
3 ـ الفعل تجزى مبني للمجهول ، وهى جملة محولة أي غير نواة ، ومحولة عن جملة نواة هى ( ليجزى الله كل نفس ) فحذف الفاعل ، وجعل المفعول مكانه نائبا عنه ليكون النائب ( المفعول سابقا ) ملاصقا للحدث ( يجزى ) فكان التحول من البنية العميقة ( ليجزى الله كل نفس )
إلى البينة السطحية ( تجزى كل نفس ) لهذا السبب ، وكأن المفعول هو الفاعل في الحقيقة لأن كل نفس تجازي نفسها عن طريق ما تفعله من خير ، فتكون قد جازت نفسها خيراً, والعكس صحيح
يقول ابن عاشور ( جملة إن الساعة آتية ، مستأنفة لابتداء إعلام بأصل ثان من أصول الدين بعد أصل التوحيد ، وهو إثبات الجزاء ......وجملة أكاد اخفيها في موضع الحال من الساعة أو معترضة بين جملة وعلتها .....
1-التحوير والتنوير المجلد السادس ج 12 ص 252
( وتأويل أبو على الفارسي معنى ( أخفيها ) بمعنى أظهرها ، وقال همزة أخفيها للإزالة مثل همزة أعجم الكتاب ، وأشكى زيدا ، أي أزيل خفاءها .....فالمعنى : أكادا أظهرها ، أى أظهر وقوعها .....وقوله لتجزى يتعلق ب ( آتية ) وما بينهما اعتراض . وهذا تعليم بحكمة جعل يوم للجزاء . واللام في ( لتجزى كل نفس ) متعلق ب ( آيته ) . ومعنى ( بما تسعى ) بما تعمل ، فإطلاق السعي على العمل مجاز مرسل (1)
4 ـ وجاء الفعل ( تسعى ) مضارعاً إشارة إلى أن الحديث عن الزمن الحاضر الذي لا زال فيه مجال للسعي ، فسوف تجزى كل نفس عن سعيها الذي تقوم به الآن في الدنيا عكس الآية الأولى ، التي كاد الحديث فيها بزمن الماضي ( ليجزى الله كل نفس ما كسبت ) لأنه في مقام الآخرة فلا عمل الآن , بل جزاءوحساب
5 ـ ويقول الرازي ( أحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل لأن الباء للإلصاق فقوله ( بما تسعى ) يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي ) (2 ) ولذلك قال القرطبي : ( لتجزى كل نفس بما تسعى ) (3 ) أي بسعيها ، فالأصل هو جر المصدر ـ لا جر الفعل ، والباء تحمل هنا أيضا معنى العوض والمكافأة . كما ذكرت من قبل ـ فالجزاء يكون مقابلا ومساويا للسعي ، ويرى ابن عاشور أن هذه جاء السببية ، أي تجزى كل نفس بسبب ما كسبت ، أي جزءا متناسبا لما كسبت أي عملت ، والمعنى في الرأيين متقارب حيث أشارت الباء إلى أن الجزاء عوضا عن العمل وبسببه .
6 ـ ثم تختتم الآية رقم 16 القول بحديث عن الحكمة من ذكر يوم القيامة ، وهو النهي عن أن يصدك يا محمد عن هذه الساعة من لا يؤمن بها ، واتبع هواه فتردى، وكأنها تنبيه وتحذير بأن الجزاء على هذا السعي سيكون يوم القيامة ، فلا تتأثر يا محمد بمن يصدك عن الدعوة ويحاربك
7 ـ الانتقال من الفعل ( كسب ) إلى الفعل ( سعى ) متعلق بما سبق ,وهو الحديث عن الدنيا والحديث عن الآخرة, فقد استوجب الحديث عن الآخرة استخدام الفعل كسب للدلالة على انتهاء والعمل وبداية تحصيل الأجر على هذا العمل فكان الفعل ( كسب ) مناسبا في هذا المقام .
أما الفعل ( تسعى ) فيه إشارة إلى أننا مازلنا في الدنيا دار السعي ، العمل ، فكان أيضا مناسبا لمقامه هنا ، وهو مقام السعي والعمل لا الحساب والمكافأة
( ج ) الآية الثالثة :غافر ( 16/17)
لمن الملك اليوم / لله الواحد القهار / اليوم تجزى كل نفس بما كسبت / لا ظلم اليوم / إن الله سريع الحساب )
يقول الرازي ( اعلم أنه سبحانه لما شرح صفات القهر في ذلك أردفه ببيان صفات العدل والفضل في ذلك اليوم فقال ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ) (4)
والحق أن كلمة ( يوم ) تكررت في هذا المقام ثلاث مرات للتأكيد على فكرة واحدة ، وهى أن هذا الحدث مرتبط وملاصق لهذا اليوم ، فاليوم يرفع الظلم عن العباد ، واليوم يأتي الله فيعلم بنفسه أنه الملك الواحد القهار ، واليوم تعطى كل نفس جزاء سعيها ، وجاءت معرفة للتحديد أي هذا اليوم, وليس غيره
ولأن الحدث في يوم القيامة ، كانت الكلمات والتراكيب مناسبة لهذا اليوم كما ذكرت آنفا من :
أ ـ استخدام كلمة ( كسبت ) لإشارة إلى أنها دار التحصيل على العمل والكسب ، وجاء الفعل في الماضي للدلالة على انتهاء العمل والكسب وبداية المكافأة والأجر .
1-التحرير والتنوير المجلد السابع ص 16 / 202 2 - التفسير الكبير المجلد العاشر ج22 ص 25
3- القرطبي ج10 ص 3474- 4- التفسير الكبير المجلد 14 ج 38 ص 44
ب ـ استخدام الفعل ( تجزى ) المبنى لغير فاعله إشارة إلى أن النفس هى المتسببة في هذا الجزاء ، ولهذا قالوا عن الباء في بما كسبت أنها : ( للسببية أن تجزى بسبب ما كسبت ، أي جزءاً مناسبا لما كسبت أي عملت ) (1)
هذه الآيات جاءت في خمس جمل هي :
1 ـ لمن الملك اليوم ؟
2 ـ لله الواحد القهار
3 ـ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت
4 ـ لا ظلم اليوم
5 ـ إن الله سريع الحساب
يتناولها ابن عاشور موضحا مدى التعانق بين النحو والدلالة في هذه الآيات يقول ( وترتيب هذه الجمل الخمس هو أنه لما تقرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم بمجموع الجملتين السابقتين (2) عددت آثار التصرف بذلك الملك ، وهى الحكم على العباد بنتائج أعمالهم ، وأنه حكم عادل لا يشوبه ظلم ، وأنه عاجل لا يبطئ لأن الله لا يشغله عن إقامة الحق شاغل ... وعلى هذه النتائج جاء ترتيب ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) ثم ( إن الله سريع الحساب ) (3)
ثم يشرح الترابط النحوي والعلاقة بين هذه الجمل بناء على الترابط الدلالي الذي وضحه ، فيقول :
( أما مواقع هذه الجمل الثلاث
1-جملة ( اليوم تجزى ) إلخ واقعة موقع البيان لما في جملة ( لمن الملك اليوم ) وجوابها في إجمال
2-وجملة (لا ظلم اليوم )واقعة موقع بدل الاشتمالمن جملة ( تجزى كل نفس ما كسبت )
أي جزاء عادلا لا ظلم فيه ، أي ليس فيه أقل شوب من الظلم حسبما اقتضاه وقوع النكرة بعد لا النافية للجنس )....وجملة ( إن الله سريع الحساب ) واقعة موقع التعليل لوقوع الجزاء في ذلك اليوم ، ولانتفاء الظلم عن ذلك الجزاء ، وتأخيرها عن تينك الجملتين مشيرا إلى أنها علة لهما ، فحرف التوكيد واقع موقع فاء السببية ، كما هو شأن ( إن ) إذا جاءت في غير مقام رد الإنكار, فسرعة الحساب تفتضي سرعة الحكم ، وسرعة الحكم تقضي تملؤ الحاكم من العلم بالحق .....فكان قوله ( سريع الحساب ) علة لجميع ما تقدمه في هذا الغرض ، والمعنى : أن الله محاسبهم حسابا سريعا لأنه سريع الحساب ) (4)
أي أنه يقصد ( لو حولنا ذلك لمعادلة ) أن الجملة (3 ) تربط بالجملة (1) بعلاقة البيان أي أنها صفة لهذا اليوم الذي يسأل فيه صاحب الملك ( الله ) مالك المك يتصف بأنه يوم الجزاء العدل والحق
(3 1 ) أي أن 3=1 ، فلو قلنا : ما اليوم الذي تجزى فيه كل نفس بما كسبت )
كانت الإجابة هو اليوم الذي يعلن الإله الحق مالك الملك عن نفسه وهنا يظهر الترابط بين الجملتين نحوياً ودلالياً .
ويقصد أن العلاقة بين الجملة (4) والجملة ( 3 ) أنها بدل الاشتمال ، فتصبح المعادلة
4 = 3 عن طريق علاقة الاشتمال
فقوله ( لا ظلم اليوم ) جاء نتيجة لأن كل نفس أخذت حقها بما كسبت ، فالحكم على هذا اليوم أنه يوم عدل لا ظلم فيه .
1- التحوير والتنوير مجلد 9 ج 24 ص 112
2- يقصد قوله تعالى ( لمن الملك اليوم , لله الواحد القهار )
3- التحوير والتنوير مجلد 9 ج 24 ص 112
4- المرجع السابق نفس الصفحة
وأكد هذا المعنى من خلال تنكير كلمة ( ظلم ) بعد لا التي أصبحت بذلك نافية للجنس فنفت جنس اسمها عن خيرها ، فلا يوجد أي نوع من الظلم في هذا اليوم .
ويقصد أن العلاقة بين الجملة ( 5 ) والجملة ( 3 ) أنها واقفة موقع التعليل لها ، ولهذا جاءت متأخرة عن باقي الجمل لأنها تعليل لهم ، هذا تصور ابن عاشور للتركيب اللغوي لهذه الجمل معا, ومدى تعاون النحو مع الدلالة لتفسير المعنى ، ورسم صورة لهول وعظمة هذا اليوم
وشيء آخر لم يذكره ابن عاشور وهو أن هذه الآيات جاءت في جمل قصيدة وهو ما استوجبه الموقف من إصدار أحكام في شدة وحسم ، وهو حوار شديد بين الله وخلقه للسؤال عن الملك ، فتتجلى عظمة الخالق في هذا الإطار ، والحوار الشديد القصير الحاسم .
د ـ الآية الرابعة 45/22 الجاثية
( وخلق الله السماوات والأرض بالحق ، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون )قال القرطبي أي بالأمر الحق ( لتجزى ) أي ولكي تجزى كل نفس بما كسبته أي في الآخرة وهم لا يظلمون ) (1)
وفي معنى . ولتجزى ، يقول الرازي ( فيه وجهان : الأول أنه معطوف على قوله بالحق ) فيكون التقدير وخلق الله السماوات والأرض لأجل إظهار الحق ولتجزى كل نفس
والثاني : أن يكون العطف على محذوف والتقدير : وخلق الله السماوات والأرض بالحق ليدل بهما على قدرته ، ولتجزى كل نفس ، والمعنى أن المقصود من خلق هذا العلم إظهار العدل والرحمة ، وهذا لا يتم إلا بالبعث والقيامة ) (2)
وهذا التأويل الأخير للرازي هو ما يوافق معطيات الآية النحوية التي سبق أن ذكرتها ، وهى أن هذا الإظهار لا يتم إلا بالبعث ، ولهذا استخدم الفعل ( كسب )الذي يكون بعد انتهاء العمل ، ولم يستخدم الفعل سعى الذي يدل على اتصال العمل وهو في الدنيا ، وكذلك الزمن الخاص بالفعلين فكان كسب في الماضي لانتهاء العمل وكون الحديث عن الآخرة لا الدنيا ، وليس الفعل يسعى المضارع كما في الآية التي تشير إلى الدنيا
ولهذا نرى أن مقارنة الآيات لغوياً يرجح الآراء التفسيرية للقرآن الكريم
فيكون اختيار التفسير الأخير للرازي مبنيا على تأويل نحوي.
أما بعد الانتقال من حياة الدنيا إلى الآخرة تحول الحديث إلى ذلك المكان ( الآخرة ), وكأنها حادثة الآن ، فعبر عن ذلك بالفعلين التالين بزمن المضارع فقال : ( لتجزى ـ لا يظلمون ) فاستحق الفعل ( تجزى ) المضارع أن تلازمه الجملة الحالية ( وهم لا يظلمون ) بفعل مضارع أيضا ، وهو ( يظلمون ) . لبيان حالة الحدث ( الجزاء ) أنه لا يقوم على ظلم ، فاستدعى ذلك الرد السريع المباشر ( لا يظلمون )
الخلاصة : إذا أعدنا النظر إلى هذه الآيات التي تكلمت عن حساب الإنسان في الآخرة نجد عدة أمور أوضحتها الآيات ن ولم تظهر لنا إلا بالدراسة اللغوية لها وهى :
1 ـ أن الحق تبارك وتعالى عبر عن الإنسان الذي يحاسب في الآخرة بكلمة نفس لماذا ؟ ولم يستخدم الحق كلمة إنسان أو رجل أو شخص ؟ ليظهر من ذلك أن كلمة نفس تعنى ذات الشخص ، وما يحتويه من جسد وروح لا يختلط مع إنسان آخر أو شخص يشبهه، فكان التعبير بكلمة النفس أقوى وأدق من غيرها ،

1- القرطبي ج 25 / 465
2- التفسير الكبير المجلد الرابع عشر ج 28 ص 237
ويقوم التعبير القرآني في المواقف الحاسمة والعصبية باستخدام هذه الكلمة دون غيرها :
كما سنرى في الآيات الأخرى ,وهى ملازمة له حتى بعد فناء الجسد ، تبقى النفس فكان التعبير بالنفس أصح وأدق ، وكذلك كانت كلمة نفس لتشمل كل إنسان وحيوان وملائكة ، فقد قالت الملائكة عندما سمعت قوله تعالى ( كل من عليها فان ) هلك ابن آدم ، وعندما سمعت ( كل نفس ذائقة الموت ) قالت متنا أيضا ، فكلمة نفس أعم وأشمل
2 ـ استخدمت الآيات جميعا الفعل ( تجزى ) في زمن المضارع ، ونفس الفعل مع إظهار الفاعل أو نائبه ، وذلك لأن الفعل تجزى يتطلب منا أن نعرف الاثنين الفاعل والمفعول ‘ فالله ( يجزى ) ، والنفس ( تجزى ) وهى قضية حساب وأجر على عمل سبق يحتاج إلى معرفة بالفاعل والمفعول أي صاحب الحق والذي يعطى الحق وهو الله تبارك وتعالى والنفس التي تأخذ هذا الحق وقد كان هذا الفعل محور هذه المجموعة من الآيات ( ( تجزى ) ومنطلق كل هذه العبارات القرآنية
3 ـ وكلمة ( كل ) جاءت للتأكيد على الشمولية لكل نفس في الكون ممن نعرف من خلق الله وما لا نعرف
4 ـ ( ما ) جاءت للتعبير عن العمل ، وهى اسم موصول ، ولهذا استخدم ( ما ) ولم يستخدم ( من ) لأنها للعاقل فكان التعبير القرآني دقيقا في استخدام ( ما ) لهذا السبب . لأن الكسب لا يعقل .
واختلفت الآيات في :
استخدمت الآيات نفس القالب اللغوي الذي ترد ذكرناه آنفا ، ولكنها اختلفت في بعض الأشياء ، وذلك لأن كل آية لها سياقها الذي فيه ، وبالتالي لها حيثياتها اللغوية التي يستوجها هذا السياق ، فنرى اختلافات في الحيثيات اللغوية مثل :
1-حذف الباء في آية واحدة دون باقي الآيات التي تدخل على ( ما ) وذلك في سورة إبراهيم فقال تعالى ( ليجزى الله كل نفس ما كسبت )
2 ـ الفعل ( تجزى ) جاء في الآية السابقة مسنداً إلى فاعله الحقيقي غير مبنياً للمجهول أي في سورة ( إبراهيم ) لماذا حدث في هذه الآية دون غيرها ؟
إن الاآية الكريمة تتحدث بالتفصيل عن يوم عصيب تبدل فيه الأرض والسماوات ويظهر الناس لله الواحد القهار ، ويبدو المجرمون في لباسهم الذي من قطران ، في كل هذا الإطار شديد الهول والفزع ، جاء التعبير مباشراً وقوياً ، فوصل الفعل يجزى إلى مفعوله الثاني مباشرة ، بدون حرف جر ، فكانت الآية الوحيدة التي أسقطت الباء منها.
وكذلك احتاج الأمر إلي بيان الفاعل صاحب القوة والقهر والجبروت ( الله ) بلفظه واسمه صريحا .
ليعلم من المسيطر في ذلك اليوم ومن المجازى فذكر الله باسمه الأعظم دون صفاته
2 ـ واستخدام الفعل كسب ـ سعى ـ يرجع ـ ذكرنا آنفا ـ إلى أن الأول كان في إطار الحديث عن الآخرة والثاني في الحديث عن دار السعي والعمل أي الدنيا ، وكذلك الزمن بالنسبة للفعلين فالأول دائما ماض ، والثاني مضارع لنفس السبب السابق .
4 ـ جاءت الإشارة إلى عدم وجود الظلم في هذا اليوم موضعين فقط من هذه الآيات في غافر الجاثية فكانت في غافر ضمن إطار الشدة والحسم ، وفي الجاثية في إطار التعبير عن نتائج الجزاء هو عدم الظلم في ذلك اليوم .
المجموعة الثانية
تستخدم المجموعة الثانية فعلا محوريا غير المستخدم في المجموعة الأولى ، وهو هنا الفعل ( وفت ) في مقابل الفعل ( تجزى ) في المجموعة الأولى . وفي إطار قالب لغوي مماثل للمجموعة الأولى ، وففى الأولى ( تجزى كل نفس ما كسبت )
وفي الثانية ( وفيت كل نفس ما كسبت )
التركيب النحوي هو : فعل + فاعل أو نائبه + مفعول هو ما + صلة الموصول
وهى جملة فعلية فعلها وفاعلها ظاهر لأنها تصدر حكما على كل الأنفس بأنها تجزى بما تفعل ولهذا لن نناقش هذا التركيب هنا لأنه مماثل لما ذكرناه في المجموعة الأولى ولكن نناقش هنا الفرق اللغوي بين المجموعتين ، ومحور الخلاف بينهما في عدة نقاط وهى
أولا : استخدام الفعل ( وفي ) في مقابل الفعل ( جزى )
والتوفية كما يقول ابن عاشور (إعطاء الشيء وافيا لا ينقص فيه عن الحق في إعطائه ، ولا عن عطاء أمثاله ) (1) ( وفي الشيء يفي وفاء : تم وفي فلان نذره : أداه ، ووفي بعهده : عمل به ، وأوفى بالوعد والعهد : وفى ، ووفى الكيل أتمه ، ووفى فلانا حقه : أعطاه إياه وافيا تاما . وفي فلانا حقه : أوفاه إياه ، وتوفى الله فلانا : قبض روحه, واستوفى فلان حقه : أخذه وافيا تاما (2)
الجزاء من الفعل جزى فمعناه ( جزى الشيء جزاءً : كفى وأغنى وفي القرآن الكريم ( واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ) ويقال : جزى مجزى فلان ، وجزى فلانا بكذا وعليه : كافأة وأجزى عنه : كفى وما أغنى وجازاه : أثابه وجازاه : عاقبة والجازية : الثواب والعقاب ) (3)
وإذا كان الوفاء والجزاء بمعنى واحد فكلا المجموعتين متطابقتان في المعنى ، إلا أن الجزاء يكون عن عمل قام به الشخص فأعطى له جزاءاً على عمله ، ولا ظلم في ذلك ، فلهذا لا نجد هذه المجموعة ( الأولى )تنتهي بقوله وهم لا يظلمون ، إلا في موضع واحد .
أما الوفاء : فقد يكون تاما كاملا, وقد يقترب من التمام ويعتبر وفاء ، ولهذا كانت كل آيات ( ووفيت ) متبوعه ( غالبا ) أو مسبوقة ( في مرة واحدة ) بقوله : وهم لا يظلمون ، أي هو وفاء كامل لا ظلم فيه
ثانيا : السوابق الآيات :

1-التحرير والتنوير المجلد العاشر ج 24 67
2- القاموس المحيط 1890 والمعجم الوجيز 676
3- المرجع السابق القاموس 279 والوجيز 104
يسبق الفعل الأول ( وفى ) في كل المواضع حرف عطف ( الواو ـ ثم ) و يسبق الفعل الثاني ( غالبا ) تجزى لام التعليل ( ليجزى ) فكان الفعل ( جزى ) تعليلا للحدث السابق عليه ، فيكون قيام الساعة لتجزى كل نفس أجرى سعيها وجزاء عملها ـ كما في سورة إبراهيم وغافر ، وكان خلق السماوات والأرض
لإظهار الحق ولتجزى كل نفس بما كسبت ـ كما وضح ذلك الرازي (1)في سورة الجاثية ـ وكذلك إخفاء موعد قيام الساعة لتجزى كل نفس ما كسبت كما في سورة طه .
وهنا يظهر أن سوابق الفعل ( لام التعليل مع الفعل جزى ) كان لعله ، وهى توضيح أسباب ما قبله من أحداث مختلفة ، حدث الفعل جزى بسببها .
أما الفعل وفى ، فهو دائما مسبوق بحرف عطف الواو غالبا ، وثم مرتين ولا يخفى علينا ما في توالي الواوين ( واو العطف وواو الفعل وفى ) من انسجام صوتي حدث من تكرار هذا الصوت ( الواو ) ( ووفيت ) وهو جانب صوتي لا يمكن إغفاله وله تأثير نفسي على السامع .
وكذلك فإن العطف هنا جاء لتمام المعنى أي أن الوفاء بالجزاء لكل نفس على ما عملت من تمام الحدث ، كما في :
1 ـ آل عمران الآية 25 ( فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) فكان الجزاء مواكبا للحدث الأول ، وهو الجمع حيث جمعهم الله في يوم القيامة ، وأعطاهم أجرهم على عملهم
2 ـ النحل الآية 111) ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت ) فكان الجزاء ، والوفاء بالأجر مواكبا للحدث الأول وهو الإتيان ، أي حيث تأتي النفس يوم القيامة تجازى على عملها
3 ـ الزمر الآية 70 ( وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب ، وجئ بالنبيين والشهداء ، وقضى بينهم بالحق
وهم لا يظلمون ، ووفيت كل نفس ما عملت ) فكان الجزاء في يوم القيامة مواكبا أيضا للحدث المسرحي الذي نرى فيه مجموعة أحداث متزامنة معاً ، ومتلازمة على المسرح الأحداث ، ومن بينها أن كل نفس أعطيت حقها على عملها ( لاحظ زمن الفعل وفيت ) وهو الماضي دليل على أن الوفاء قد تم بالفعل ضمن الأحداث السابقة ، التي جاءت أفعالها كلها ماضية أيضا ( أشرقت ـ وضع ـ جئ ـ قضى ـ وفيت ) فكانت كل الأفعال في زمن واحد دليل على أنها تمت في وقت واحد ، مما يدل على تناسق وتناسب الأفعال معاً
وكان في كل هذه المواضع لابد أن يكون العطف بالواو لمواكبة حدث الوفاء لما قبله من أفعال, أما المواضع التي جاءت فيها ( ثم ) وهى :
1 ـ البقرة الآية 281 ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ، ثم توفى كل نفس ما كسبت )
فكان لابد من وجود ( ثم ) التي تدل على الترتيب مع التراخي ، فهو سبحانه يأمرهم بأن يتقوا يوما سيرجعون فيه إلى الله ، ثم توفى كل نفس ما كسبت ، أي أن الرجوع أولا ، ثم يأتي الجزاء بعد ذلك ، وهو إخبار في الدنيا عما سيحدث في الآخرة ، ولهذا احتاج إلى حرف عطف يدل على الترتيب ( فيوم القيامة أولا يليه الجزاء ) والتراخي ، حيث يسبق الجزاء والوفاء الحساب ، فبعد مجئ يوم القيامة والرجوع إلى الله ، يتم الحساب ثم الجزاء .
2 ـ آل عمران الآية 161 ( وما كان لنبي أن يغل ، ومن يغلل يأت بما غًل يوم القيامة, ثم توفى كل نفس ما كسبت ) وهو أيضا حديث في الدنيا عما سيحدث يوم القيامة ، ولهذا احتاج إلى الترتيب والتراخي ، حيث يأتي يوم القيامة أولا ، ثم يأتي الرجل الذي يغلل, ثم يحاسب عل فعله ، ثم يجزى على هذا العمل ، فكان لابد من وجود ثم للدلالة في هذا الموضع على الترتيب .
والتراخي جاء من وجود مرحلة غير مذكورة ضمن الأحداث وهى ( الحساب ) فيكون الترتيب هو
1 ـ مجئ يوم القيامة
2 ـ الحساب
3 ـ الوفاء
وقد سقطت المرحلة الثانية من الكلام ، فاحتاج القول إلى ثم . للتراخي والترتيب

1- التفسير الكبير المجلد 14 ج 48 ص 237
ثالثا : اللواحق
وكانت المجموعة الثانية مختومة بلاحقة ، وهي الجملة الحالية ( وهم لا يظلمون )حيث تشير إلى أن الوفاء كان في حالة عدل لا ظلم فيها ، ولهذا جاءت في كل الآيات الخاصة بالمجموعة الثانية الجملة الحالية ( وهم لا يظلمون ), فكانت تلك اللاحقة وهي جملة حالية مطابقة لما بين النحو والدلالة من تناسق كما أن الوفاء لا حد له ، فإذا كان الوفاء في الأجر قد يقل ، فهو قد يزيد ، ولهذا فصل القول في ذلك بالجملة الحالية التي تعد لاحقة للفصل وفى, بل هي متعلقة به أيضا فإن الحد الأدنى لاستيفاء هؤلاء أجورهم هو ألا يظلموا .
أما ( تجزي ) فهو حق عن العمل يعطى كاملا بلا زيادة , ولا نقصان , لأنه جزاء أي أجر عن عمل, فلا حاجة إلى تلك اللاحقة , وهي الجملة الحالية ( وهم لا يظلمون ) , فلم ترد الا في موضع واحد في سورة الجاثية ,
رابعا : الوساطة .
ونقصد بها وسط الجملة , فنجد هذه الجملة مكونة من :
فعل + نائب فاعل + مفعول + جملة الصلة + جملة الحال


ووفيت + كل نفس + ما + كسبت + وهم لا يظلمون

أ-نائب الفاعل : ( كل نفس ) لماذا كانت هذه الكلمة نائب فاعل دائما هنا ؟في مقابل المجموعة الأولى التي فعلها ( تجزي ) حيث تأتي ( كل ) مفعولا أو نائب عن فاعل , رغم ان النفس هي صاحبة الحدث في الأمرين في الفعل ( تجزي ) والفعل ( وفيت ) , ويصح أن نقول : وفى الله كل نفس ما كسبت , كما في قوله ( ليجزي الله كل نفس ما كسبت ) ابراهيم 14 \ 51
إن السبب كما أرى هنا في مجيء ( كل ) مع ( وفى ) مرفوعة في كل آيات المجموعة الثانية , لإحداث الإنسجام الصوتي بين الضمة ( التي هي بعض الواو ) والتي في نهاية ( كل ) مع الواو التي في الفعل ( وفى ) , أو الضمة التي تكون على أول هذا الفعل عندما يبنى للمجهول , كما في سورة البقرة ( ثم توفى كل نفس ) 281 , فالتجانس الصوتي أتى من توالي ثلاث ضمات على أول الفعل ,
1. وعلى الكاف واللام في ( كل ) ثم جاءت مع الفعل المضارع .
2. وفي آل عمران ( ووفيت كل نفس ) الآية 25 نفس توالي الضمات مع وجود واو العطف والفعل ماض
3. وفي آل عمران ( ثم توفى كل نفس ) الآية 161 نفس توالي الضمات مع وجود واو العطف , وجاءت قبل الفعل المضارع .
4. وفي النحل ( وتوفى كل نفس ) الآية 111 نفس توالي الضمات مع وجود واو العطف والفعل مضارع .
5. وفي الزمر (ووفيت كل نفس ) الآية 70 نفس توالي الضمات مع وجود واو العطف والفعل ماض .
ونخرج من هذا بشكلين لتوالي الضمات وهما :
1. توفى كل > تاء مضمومة + واو مفتوحة + كاف مضمومة + لام مضمومة
ت + و + ك + ل
2. ووفيت كل واو العطف مفتوحة + واو الفعل مضمومة +كاف مضمومة+ لام مضمومة
و + و + ك + ل
هذا التوالي للضمات أحدث هذا الانسجام الصوتي الذي ما كان ليحدث مع لتجزى , ولا مع الفعل المبني للمعلوم , وتصبح فيه كل مفعولا به منصوبا , فأسند الفعل إلى الفاعل غير حقيقي ( كل ) ليتم هذا الانسجام , اعتمادا على البنية العميقة لمعرفة الفاعل الحقيقي ( الله ) سبحانه وتعالى
هذا التركيب في البنية السطحية وقد أنطلق من تركيب آخر في بنية عميقة وهو الأصل وهو :
وفى + الله + كل نفس + ما + كسبت + وهم لا يظلمون

فعل + فاعل + مفعول أول + مفعول ثان + جملة الصلة + جملة الحال
هذا هو التحول من البنية العميقة إلى البنية السطحية .
ب-ما كسبت :
جاءت في كل الآيات بدون الباء , كما حدث في بعض الآيات في المجموعة الأولى , حيث ورددت هذه الباء في كل الآيات, وقد ذكر ابن عاشور معنى هذه الباء قائلا ( الباء بما كسبت للسببية , أي تجزى بسبب ما كسبت , أي جزء مناسبا لما كسبت أي عملت (1) ) وذلك في شرح قوله تعالى في سورة غافر ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ) الآية 17
1- التحوير والتنوير المجلد التاسع ج 24 ص 112
أما قوله تعالى ( ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) الجاثية الآية 22 , فقال فيها ( والباء في بما كسبت للتعويض , وما كسبته النفس لا تجزى به, بل تجازى بمثله , وما يناسبه , فالكلام على حذف المضاف , أي بمثل ما كسبته , وهذه المماثلة مماثلة في النوع ...
ولهذا أعقبه بقوله ( وهم لا يظلمون ) فضمير ( وهم ) عائد إلى ( كل نفس ) , فإن ذلك الجزاء مما إن اقتضاه العدل الذي جعل سببا أو ملابسا لخلق السماوات والأرض وما فيها, فهو عدل (2) )
ان الحديث في المجموعة الأولى بالفعل ( تجزي ) هو عن عمل يكافأ عليه المرء , ولهذا كانت الباء بمعنى العوض والسبب , فهو يجزي مقابل عمله وبسببه , ولهذا جاءت الباء في كل الآيات ,والحديث هنا مع الفعل ( وفى ) فهو عن الوفاء , وهو لا حد له , فهي ( أي النفس ) توفى من الله ما كسبت وما يزيد , فالتوفية : إعطاء الشيء وافيا لا نقص فيه من الله الحق الكريم في وفائه فانظر إلى قمة كرمه وعطائه , يقول الطبري ( فتوفى كل نفس جزاءها بالعدل من ربهم ( وهم لا يظلمون ) وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها, وبالحسنة عشر أمثالها؟ (3) )
ولا حاجة هنا إلى تلك الباء لأنها لن تؤول هنا بمحذوف كما في تجزى, فتؤول الباء بـ ( تجزى ) جزاءا مناسبا لما كسبت , ولكنها لا تؤول مع (وفى ) .
يقول الرازي ( ثم توفى كل نفس ما كسبت ) المراد أن كل مكلف فهو عند الرجوع إلى الله لابد وأن يصل إليه جزاء عمله بالتمام .... أن المكتسب هو ذلك الجزاء لأنه لا يحصله الرجل بتجارته من المال ,
فإنه يوصف في اللغة بأنه مكتسبه , فقوله ( توفى كل نفس ما كسبت أي توفى كل نفس مكتسبها , ثم قال (وهم لا يظلمون ) وفيه سؤال , وهو أن قوله ( توفى كل نفس ما كسبت ) لا معنى لها إلا أنهم لا يظلمون , فكان ذلك تكريرا ,
وجوابه : أنه تعالى لما قال ( توفى كل نفس ما كسبت ) كان ذلك دليلا على إيصال العذاب إلى الفساق والكفار, فكان لقائل أن يقول : كيف يليق بأكرم الأكرمين أن يعذب عبيده ؟ فأجاب عنه بقوله ( وهم لا يظلمون ) ... أنه سبحانه مالك الخلق , والمالك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلما , فكان قوله ( وهم لا يظلمون ) بعد ذكر الوعيد إشارة إلى ما ذكرنا (4))
1-المرجع السابق المجلد العاشر ص25 , ص256 .
2- تفسير الطبري المجلد 3 ص3 , ص122
3- التفسير الكبير المجلد 3 \ ص7 , ص103
آيات ترتبط بهذا اللفظ ( تجزى )
وردت آيتان بهذا اللفظ في سورة واحدة وهي سورة البقرة في قوله تعالى :
1- 2\48 ( واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون )
2- 2\123 (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون )
الآيتان تتحدثان عن الجزاء في الآخرة , فالنفس لا تجزى عن غيرها شيئا , ولا يحق لها الشفاعة ولا تستطيع نصرة غيرها ولا يقبل منها فدية ( عدل )
وقد جاءت الآيتان في نفس القالب اللغوي تكملة للمعنى السابق ,وهو أن لا تجزى نفس إلا ما كسبت , بل هي تجزاه الجزاء الأوفى , فيهول الله تبارك وتعالى من هذا اليوم ,فلا تنوب نفس عن نفس في شيء , ومنع الوساطة والعون في ذلك اليوم بعدة جمل الجملة الرئيسية الموصوفة هي ( اتقوا يوما ) , وهي مكونة من : فعل + فاعل + مفعول .
فيكون يوم منصوبا على المفعوليه بـ ( اتقوا ) , وقيل ( في الكلام حذف بين النحويين فيه اخلاف ,
قال البصريون : التقدير يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ,ثم حذف فيه ...(1))ثم تأتي الجملة التالية واصفة هذا اليوم ( لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا )
وقيل هي صفة لهذا اليوم , قال بهذا ابن الأنباري (لا تجزى وما بعده من الجمل المنفية , صفات ليوم, وفي كل جملة ضمير مقدر يعود على يوم , ولو لا ذلك الضمير لم يجز أن يكون صفة , لأنه لا بد أن تعود الصفة إلى الموصوف ذكر و التقدير : لا يجزى فيه .... ثم حذف الهاء من الصفة وهو أولى من حذف فيه (2))
ثم تأتي هذه الجمل صفات لذلك اليوم لمنع العون والشفاعة فيه وهي :
1- لا تجزى نفس عن نفس شيئا , والجملة مكونه من
فعل + فاعل + مفعول تعدى له بعن + مفعول ثان هي صفة أولى لليوم
2- ولا يقبل منها شفاعة , وهي مكونة من
فعل + نائب فاعل والجملة صفة ثانية لليوم
3- ولا يؤخذ منها عدل وهي مكونة من
فعل + نائب فاعل والجملة صفة ثالثة لليوم
4- ولا هم ينصرون , وهي مكونة من
مبتدأ + خبر والجملة صفة رابعة لليوم
وكان مجمل هذه الجمل النفي المطلق لوجود أي عون أو جزاء من نفس لنفس أخرى ,فأكد ذلك بتلك الجمل المنفية , قال الرازي في معنى تجزى ( الأصل في جزى هذا عند أهل اللغة قضى ومن الحديث .... ( تجزيك ولا تجزى أحد بعدك ) ...أي تقضي عن أضحيتك وتنوب , ومعنى الآية أن يوم القيامة لا تنوب نفس عن نفس شيئا , ولا تحمل عنها شيئا مما أصابها بل يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه ... ومن قرء ( لا تجزى ) من أجزأ عنه إذا أغنى عنه فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئا من الاجزاء, وهذا الجملة منصوبة المحل صفة اليوم .... ومعنى التنكير أن نفسا من الأنفس لا تجزى عن نفس غيرها شيئا من الأشياء , وهو الإقناط الكلي القطاع للمقاطع (3))
فكان معنى ( تجزى ) هنا هو النيابة عن الآخرين في العذاب , فلا يصح لنفس أن تنوب عن نفس أخرى في ذنب من الذنوب , وكانت كلمة نفس نكرة لإطلاق الحكم على كل نفس , فتفيد العموم والشمول لكل الأنفس .
1- الجامع لأحكام القرآن مجلد 1 جـ 1 صـــ 345
2- البيان في إعراب غريب القرآن 1\80
3- التفسير الكبير مجلد 2 جـ 3 صــ 54
تركيب الجملة :
أتقو يوما
فعل + فاعل + مفعول
اتق + واو الجماعة + يوما
1- لا تجزى نفس عن نفس شيئا 3 - لا يقبل منها شفاعة
2- لا تؤخذ منها عدل 4- هم لا ينصرون
ملاحظات على الآيتين :
أ – تكرار الجملة نفسها في الآية الثانية مع تقدم الفدية على الشفاعة فيرا
المشرف العام
المشرف العام
Admin

عدد المساهمات : 29
تاريخ التسجيل : 13/06/2010

http://almadawe.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

العلاقة بين الدلالة والتركيب . دراسات تطبيقية لبعض آيات النفس في القرآن الكريم أ. د  عطية سليمان أحمد الجزء الأول Empty العلاقة بين الدلالة والتركيب . دراسات تطبيقية لبعض آيات النفس في القرآن الكريم أ. د عطية سليمان أحمد الجزء الثالث والأخير

مُساهمة  المشرف العام الإثنين 14 يونيو 2010 - 12:10

ولقد عبر النص القرآني عن المعنى بالاستثناء المنفي , والقصر , حيث قصر كسب أو فائدة كسب النفس عليها وحدها , وهذا الأسلوب البلاغي أكد المعنى وأوضحه , واشار بكلمة (كل)إلى عموم الأنفس جميعا , واستخدم الفعل المضارع لأنه يتحدث مخاطبا أهل الدنيا فدل بذلك على استمرار الحدث , قديما وحاضرا ومستقبلا يكون سعي النفس لها أو عليها , فكانت ( على ) كما أشار ابن عاشور إلى أن المحذوف أي المفعول شرا أو إثما , لأن ( على ) هنا يفهم منها ذلك , وتستعمل على للاستعلام كثيرا نحو ( زيد على السطح ) وبمعنى في نحو قوله تعالى ( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) أي في حين غفلة(3)), فإذا كانت بمعنى الاستعلاء كثيرا , فهي هنا تدل على هذا المعنى وأن كسب النفس فوقها , ففهم من ذلك أنه شر . وهو ما قاله ابن عاشور وهو ما يناسب مقام القول , فهي قد نزلت في الكافرين وبأن كسبهم من الآثام واقع عليهم , وعاقبته مردودة عليهم . وأكد معنى الاستعلام الموجود في كلمة على موجود في باقي الآية ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) أي لا تحمل حاملة حمل أخرى فالوزر هو الحمل , وهو ما يحمله المرء على ظهره وتسمية الإثم وزرا , فلأنه يتخيل ثقيلا على نفس المؤمن , قال تعالى ( ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم (4))فكانت الجملة التالية تأكيدا لمعنى الجملة الأولى , بالدليل المادي فكما لا تحمل حاملة حمل أخرى , فلا يتحول كسب نفس من الآثام إلا عليها , والرابط بين هذه الآية والمجموعة الثانية قضية كسب النفس فيهما
1- تفسير القرآن الكريم 2ص185
2- التحوير والتنوير المجلد الرابع جـ8 صــ 207
3- شرح ابن عقيل جـ3 صــ 35
4- التحوير والتنوير المجلد الرابع جـ8 صــ 207
2-الآية الثانية من سورة الرعد الآية 13\33
(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت , وجعلوا لله شركاء
يقول القرطبي ( ليس هذا القيام القيام الذي هو ضد القعود , بل هو يعني التولي لأمر الخلق ...فإنه قائم على كل نفس بما كسبت , أي يقدرها على الكسب , ويخلقها ويرزقها ويحفظها ويجازيها على عملها فالمعنى أنه حافظ لا يغفل , والجواب محذوف , والمعنى : أفمن هو حافظ لا يغفل كمن يغفل , وقيل ( أفمن هو قائم ) أي عالم ... فالله عالم بكسب كل نفس , وقيل المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم .(1))
1- القرطبي ج 10 / 291
وقال الرازي ( أعلم أنه لابد لهذا الكلام من جواب ... التقدير ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) كمن ليس بهذه الصفة ؟ هي الأصنام التي لا تنفع ولا تضر , وهذا الجواب مضمر في قوله تعالى ( وجعلوا لله شركاء ) والتقدير ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائكم التي لا تضر ولا تنفع (2))
إن الحق أشار في هذه الآية إلى مقام كل نفس عنده فهو متوليها وحافظها , وأيضا مجازيها بما تسعى وتكسب , كما أقدرها – كما قال القرطبي – على الكسب فهو محاسبها على عملها ويجازيها عليه , وهو أيضا عالم بكسبها . وقد عبر عن ذلك بأسلوب الاستفهام الذي جوابه النفي , أي من هو قائم على كل نفس بما كسبت ومكسبها ومحاسبها كمن لا يفعل ؟ والإجابة لا , ليس هذا مثل ذلك , ولهذا نقول هذا الاستفهام منفي حيث غرضه تقرير حقيقة من على ألسن الكفار , وهي قولهم : لا ليس هذا مثل ذلك .
وعبر الحق تبارك وتعالى عن قمة المراقبة للنفس , بل لكل نفس بكلمة قائم اسم فاعل من الفعل قام , فكانت بمعنى المراقبة التامة المباشرة الملازمة لكل نفس , وأكد ذلك باستخدام حرف الجر على , قال ابن عاشور ( والقائم على الشيء الرقيب , فيشمل الحفظ والإبقاء والإمداد ولتضمنه معنى الرقيب عدى بحرف ( على ) المفيد لاستعلاء المجازي , وأصله من القيام والملازمة كقوله ( إلا ما دمت عليه قائما ) ويجيء من معنى القائم أنه العليم بحال كل شيء لأنه تمام القيومية يتوقف على إحاطة العلم . فمعنى ( قائم على كل نفس ) متوليها ومدبرها في كل شئونها في الخلق والأجل والرزق والعالم بأحوالها وأعمالها , فكان إطلاق وصف( قائم ) هنا من إطلاق المشترك على معنييه ... فمن أجل ذلك لزمتهم الحجة ولمراعاة هذا المعنى تعلق قائم بقوله ( على كل نفس ) ليعم القيام سائر شؤونها (3))
فكان لابد أن تأتى هذه العبارة بتلك الصورة وبهذا الجار ( على ) دون غيره .
ويشير ابن عاشور إلى أمرين آخرين في هذه الآية أن من اسم موصول مبتدأ يعود على الله سبحانه وتعالى ( وخبر من هو قائم ) محذوف دلت عليه جملة ( وجعلوا لله شركاء ) والتقدير أمن هو قائم على كل نفس ومن جعلوهم به شركاء سواء في استحقاق العبادة ... والاستفهام إنكار لتلك التسوية من لفظ ( شركاء ) وبهذا المحذوف استغنى عن تقدير معادل للهمزة (4)).

1- التفسير الكبير ممجلد 10 جـ19 صــ 46
2- التحوير والتنوير المجلد 6 جـ 13 صــ 150
3- المرجع السابق المجلد 6 جـ 13 صــ 150
والأمر الثاني عنده هو ( العدول عن اسم الجلالة إلى الموصول في قوله ( أفمن هو قائم ) لأن في الصلة دليلا على انتفاء المساواة , وتخطئة لأهل الشرك في تشريك آلهتهم لله تعالى في الألهية ... وجملة ( وجعلوا لله شركاء ) في موضع الحال , أي الحال جعلوا له شركاء وإظهار لفظ الجلالة إظهار في مقام الإتيان بضمير ( من هو قائم ) وفائدة هذا الإظهار التعبير عن المسمى باسمه العلم الذي هو الاصل إذا كان وقع الايفاء بحق العدول عنه إلى الموصول في الجملة السابقة فتهيأ المقام للاسم العلم , وليكون تصريحا بأنه المراد من الموصول السابق زيادة في التصريح بالحجة.
وتصور الجملة فيما أوضح ابن عاشور أن يكون :
جملة اسمية ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء )


همزة الاستفهام المبتدأ جملة الصلة الخبر
محذوف ودلت
عليه جملة

أ من (هو قائم على كل نفس بما كسبت) (وجعلوا لله شركاء)
وتقدير الجملة حسب شرحه وما جاء في تصوري هو : ( أ ) لله (الذي يتولى كل نفس) يساوي شركاءكم ؟ ولذلك قال : هو استفهام استنكاري , أي استفهام الغرض منه استنكار هذا التساوي في الربوبية بين الله وشركائهم .
وأضيف إلي قول ابن عاشور في عدم ذكر اسم الجلالة , أنه تبارك وتعالى استبدل اسمه في هذا المقام بذكر أفضاله ونعمه على عبادة , بل أهمها وأظهرها ليكون ذلك حجة في إظهار حقه في الإلوهية والربوبية , فهو المتولي لشئون البشر ألا يستحق أن يعبد , فكان السؤال الذي عمي فيه عن الاسم الصريح لفاعل هذه الأمور للناس مشوقا ودافعا للبحث عنه لنجده بعد ذلك في الخبر اسما واضحا جليلا ( الله ) ولكن في داخل جملة فعلية متكاملة الأركان وهذه الجملة هي السؤال الحقيقي للجملة وهو ( هل يكون حق من يخلق ويرزق أن يكون له شركاء ؟) , فكان الخبر هو نتيجة لفعله مع خلقه أن جعلوا له شركاء , فكان التعبير بالجملة الفعلية أقوى وأظهر للمعنى ,وجاء فعلها ماض للدلالة على أن ذلك الحدث , وهو الشرك بالله قد تم بالفعل وانتهى منه .
3- الآية 42 من سورة الرعد :
( يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار )
يقول الرازي ( يعلم ما تكسب كل نفس ) يريد أن إكساب العباد بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع , وإذا كان كذلك فكل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع ,وكل ما علم الله عدم وقوعه كان ممتنع الوقوع فلا قدرة للعبد على الفعل والترك , فكان الكل من الله تعالى (2))
وقد ربط ابن عاشور بين هذه الآية وما قبلها بقوله : (جملة يعلم ما تكسب كل نفس ) بمنزلة العله لجملة ( فلله المكر جميعا ), لأنه لما كان يعلم ما تكسب كل نفس من ظاهر الكسب وباطنه كان مكره أشد من مكر كل نفس لأنه لا يفوته شيء مما تضمره النفوس من المكر , فيبقى بعض مكرهم دون مقابلة بأشد منه , فإن القوي الشديد الذي لا يعلم الغيوب قد يكون عقابه اشد
1- المرجع السابق المجلد السادس صــ 13 صــ 151
2- التفسير الكبير المجلد العاشر صــ19 صــ56
ولكنه قد يفوقه الضعيف بحيلته (1))
ولكن لماذا ذكر من دقائق علمه أنه يعلم ما تكسب كل نفس ؟, أولم يكن من الأفضل كما ذكر سبحانه في مواضع أخرى أنه يقول انه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؟
إن المقابلة بين المكر و الرزق والعلم بهما دون خائنة الأعين , يرجع – والله أعلم – إلى أن الرزق والكسب يحتاج إلى الحيلة والمكر , وأنه أيضا من أسرار الأنفس التي قد يخفيها الإنسان عن أقرب الناس له , ولكن الله يعلمها , واستخدم كلمة الكسب لتشمل الرزق وغيره , فهناك كسب الأعمال الصالحة والحسنات والإثم أيضا كما في قوله تعالى ( لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم (2) واستخدم الفعل المضارع للدلالة على شيء هام جدا , فهو لا يعلم الكسب بعد أن ينتهي , حيث تخبره الملائكة بذلك , ولكنه يعلم بالأمر وقت حدوثه , لأنه مطلع على الأنفس , وما تضمر وتفكر قبل أن تفعل , فهو علام الغيوب .
أما في مستوى الفعل نفسه هو العلم , فإنه استخدم الفعل علم لإشارة إلى علم الكفار , ولكنه للمستقبل فاستخدم حرف التنفيس (السين ) للاستقبال , فهم لا يعلمون الآن , ولكن سيعلمون غدا, ولكنه علم الحسرة والندم , عندما يرون أن عقبى الدار للمؤمنين , ولا ينفعهم حينئذ هذا العلم إلا الحسرة والندم .
ولهذا كان الاختيار عظيما بين فعل الحدثين الأول والثاني , هو فعل واحد ( علم ) حتى تصح المقابلة بينهما
1-يعلم : لله تعالى العلم الدائم المباشر وقت حدوث الحدث, والمعلوم هو أخفى الأمور وهو الكسب
2-سيعلم : للكفار , ولكن فيما بعد, لكنهم لابد أن يعرفوا نتائج فعلهم , فالمعلوم هنا نتائج الصراع بين الخير والشر وبين الإيمان والكفر , والذي سيعلمهم هو الله فهو يعلم الماضي والحاضر والمستقبل
4- المدثر 74\38
(لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر , كل نفس بما كسبت رهينة , إلا أصحاب اليمين )
يقول القرطبي (كل نفس بما كسبت رهينة ) أي مرتهنة بكسبها , مأخوذة بعملها , إما خلصها , وإما أوبقها ... كأنه قال كل نفس بما كسبت رهن ... والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك .(3))
يقول ابن عاشور (كل نفس بما كسبت رهينة ) استئناف بياني للسامع عقبى الاختيار الذي في قوله ( لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ) أي كل إنسان رهن بما كسب من التقدم أو التأخر أو غير ذلك, فهو على نفسه بصيرة ليكسب ما يفضى به إلى النعيم أو إلى الجحيم , ورهينة خبر عن كل نفس , وهو بمعنى مرهونة ... والباء للمصاحبة لا للسببية (4))
ونرى هنا أن الكسب أصبح هو الذي يحدد مكانة النفس في الآخرة , ولهذا كانت الباء للمصاحبة , أي كل نفس تصاحب كسبها إلى الجنة أو إلى النار , بل هو من يوردها الجحيم أو النعيم, ولهذا جاء الكسب تاليا للنفس , فاصلا بين المبتدأ والخبر والأصل أن يأتي بعدهما ليكون أول على معنى المصاحبة ( بين النفس وما تكسب ) أي كل نفس مع ما كسبت مرهونة
التحوير والتنوير المجلد السادس جـ13 صــ174
النور 24\11
1- القرطبي 19\73
2- التحوير والتنوير المجلد 12 جـ29 صــ 324
ثانيا : تكليف النفس
الحق تبارك وتعالى خلق النفس, وكلفها بمهام في الحياة , ولكنه من رحمته بعباده أنه لم يكلفها إلا على قدر طاقتها , ولهذا جاءت الآيات تؤكد هذا المعنى التي تطيقها النفس الإنسانيةوقد وردت في القرآن الكريم سبع آيات تحمل هذا المعنى , وهو أن التكليف على قدر المقدرة
وهذه الآيات هي :
1- البقرة الآية 233 ( لا تكلف نفس إلا وسعها )
2- البقرة الآية 286 ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )
3- النساء الآية 84 ( لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين على القتال)
4- الأنعام الآية 152 ( لا نكلف نفسا إلا وسعها )
5- الأعراف الآية 42 ( لا نكلف نفسا إلا وسعها )
6- المؤمنون الآية 62 ( لا نكلف نفسا إلا وسعها )
7- الطلاق الآية 7 ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها )
تتكون هذه العبارات من هذا القالب اللغوي مع بعض التغيرات القليلة , وهو :
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها


لا النافية + الفعل + الفاعل + المفعول + أداة الاستثناء + مفعول ثان
وهذا القالب اللغوي المتكرر يقوم على النفي والاستثناء , فهو ينفي أن يكلف الله نفسا بشيء , ثم يستثني من ذلك ما كان في وسعها , أي هي مكلفة أيضا, ولكن على قدر طاقتها, وتتحد في هذه الآيات عدة عناصر وهي :
1- الفعل ( كلف ) 2- الفاعل ( الله ) 3- المفعول الأول ( النفس )
4- المفعول الثاني ( الوسع ) 5- أداة الاستثناء ( إلا )
وتختلف في حالة بناء الفعل للمجهول في إقامة المفعول الأول ومقام الفاعل
والذي نخرج به من هذا التكرار لنفس القالب اللغوي , مما يضاف إلى كل آية وردت في سياق خاص بها , أو ما يعرف بسياق الحال , إلا أننا نلاحظ هذا الاستمساك بذلك القالب وبتلك الكلمات ليتأكد المعنى المنشود, أو هو عدم ظلم الحق تبارك وتعالى للنفس بتحميلها ما لا تطيق , فهي المسئولة والمأمورة , ولهذا سبق الأمر بالتكليف المقدرة عليه حتى ينتفي عدم التنفيذ بسبب العجز , أو عدم المقدرة , فيصبح الكافر بلا حجة .
يقول القرطبي ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) التكليف هو الأمر بما يشق عليه , وتكليف الأمر تجشمه , حكاه الجوهري , والوسع : الطاقة والجدة , وهذا خبر جزم نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته , وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأويلهم أمر الخواطر (1)...
و ( يكلف ) يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف , تقديره عبادة أو شيئا (2)
1- الجامع لأحكام القرآن المجلد الثاني صـــ365
2- المرجع السابق مجلد 2 صـــ366
قال الرازي ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )
التكليف : الإلزام , يقال كلفه الأمر فتكلف وكلف , وقيل إن أصله من الكلف , وهو الأثر على الوجه من السواء , فمعنى تكلف الأمر اجتهد أن يبين فيه أثره , وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره , والوسع ما يسع الإنسان فيطيقه, أخذه من سعة الملك أي العرض , ولو ضاق لعجز عنه والسعة بمنزلة القدرة , فلهذا قيل : الوسع فوق الطاقة (1))
هذا في معنى تكلف ووسع , أما بناء الجملة فيقول فيه ابن عاشور ( وبني فعل تكلف للنائب : ليحذف الفاعل , فيفيد حذفه عموم الفاعلين , كما يفيد وقوع نفس , وهو نكرة في سياق النفي , عموم المفعول الأول لفعل التكليف : وهو الأنفس المكلفة ,كما يفيد حذف المستثنى في قوله ( إلا وسعها ) عموم المفعول الثاني لفعل تكلف , وهو الأحكام المكلف بها , أي لا يكلف أحد نفسا إلا وسعها... الآية تدل على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في شريعة الإسلام (2))
ولتوضيح مقصد الظاهر بن عاشور نقول : إنه رأي عدة تحويلات في الجملة أدت إلى المعاني المطلوبة وهي
1-التحول من البناء للمعلوم إلى البناء للمجهول في الفعل كلف حيث كانت الجملة :
لا يكلف ( الله أو أحد ... ) نفسا إلا وسعها , فحذف الفاعل فأصبحت لا تكلف نفس إلا وسعها , وهذا التحول من المعلوم إلى المجهول أفاد إمكانية وضع أكثر من فاعل للجملة مما يمكن تأويله في البنية العميقة , فيصبح لا يكلف أحد نفسا أو لا يكلف الله نفسا أو غير ذلك من الاحتمالات , وهو تحليل رائع لابن عاشور لو استفاد في ذلك برأي المدرسة التوليدية التحويلية التي تقول بهذا الرأي , وتأثير عملية التحول في وضع أكثر من احتمال للجملة .
2--يقول كذلك تنكير كلمة نفس ليفيد عموم كل الأنفس من الذكر والأنثى والحاضر والغائب , أما لو قال ( النفس ) لقصد نفسا بعينها , وهذا هو مبدأ الأصل الذي قالت به هذه المدرسة ( التحويلية التوليد ) فأصل في اللغة العربية ( التنكير ) والمعرفة فرع عليه , ولهذا فالأصل تكون قاعدته أشمل من الفرع , بل هو يغطي كل الفروع , وكلمة نفس تعني كل نفس .
3- وكذلك يرى ابن عاشور أن حذف المستثنى في قوله إلا وسعها عموم المفعول الثاني أي عموم كل الأحكام المكلف بها , فهو لا يكلف من تلك الأحكام إلا ما في قدرة هذه الأنفس ,وهو تحول جيد , وصحت العبارة , أي لا يكلف أحد أي نفس حكما من الأحكام إلا ما في وسعها .
هذه في البنية العميقة , وتم التحول منها إلى جملة أخرى في البنية السطحية , أي الجملة المنطوقة , وهي : لا يكلف نفس إلا وسعها .
وهذا الأصل يؤكده نص الآية الأخرى الموجودة في نفس السورة ( البقرة ) , وهي قوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (3)) فجاء الفعل على الأصل و هو البناء للمعلوم , وأما نفس فجاءت نكرة في الآيات السابقة لهذا السبب الذي ذكره ابن عاشور , وجاءت على أصلها , وهو المفعولية , حيث المأمور بالتكليف في كل الآيات هي النفس فهي المكلفة من الله , وقد جاءت في موضع المفعولية في كل الآيات إلا في هذا الموضع في سورة البقرة الآية (233) فكانت نائب فاعل .
1- التفسير الكبير المجلد 3 صــ110
2- التحوير والتنوير المجلد الأول جــ2صــ433
3- البقرة الآية 286
ثالثا( النفس ما لها وما عليها )
هناك مجموعة من الأشياء جعلها الله للنفس الإنسانية وبعض الأشياء على النفس والنفس هي التي تختار ما تشاء من تلك الأمور ما يكون لها وما يكون عليها أو قد جاءت في قالب واحد تقريبا , فمن هذه الأشياء التي لها
المجموعة الأولى
الهدى :
قال تعالى 1- يونس 10\108 ( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه )
2- الإسراء 17/15 ( فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه )
3-النمل 27\92 ( فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه )
4- الزمر 39\ 41 ( فمن اهتدى فلنفسه )
المجموعة الثانية
الشكر :
قال تعالى 1- النمل 27\40 ( ومن شكر فإنما يشكر لنفسه )
2- لقمان 31\ 12( ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه )
المجموعة الثالثة
العمل الصالح
قال تعالى 1- الروم 30\44 (ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون )
2- فصلت 41\46 ( من عمل صالحا فلنفسه )
3- الجاثية 45\15 ( من عمل صالحا فلنفسه )
المجموعة الرابعة
( الجهاد – الإبصار - التزكى )
قال تعالى الأنعام 6\104 ( فمن أبصر فلنفسه )
العنكبوت 29\6 ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه )
فاطر 35\18 ( ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه )
كل هذه الآيات تشير إلى أن الإنسان إذا عمل خيرا ( هدى – شكر – جهاد ....) فإنما يعمل لنفسه , وهنا ندرك أن هناك شيئين , هما الإنسان ونفسه فهو إذا جاهد أو اهتدى أو شكر فإنما يفعل ذلك لنفسه , ولكن الحقيقة أن المقصود بنفسه هي ذاته , وهو ما قاله المفسرون فيما ذكرناه من قبل في وضع آخر يشير إلى جدال النفس عن نفسها أي ذاتها , فمن جاهد أو اهتدى أو شكر فإنما يفعل ذلك لذاته
أما القالب اللغوي الذي فيه كل هذه الآيات فهو قالب شرطي أي جملة شرطية تقوم على ركنين هما جملة فعل الشرط , وجملة جواب الشرط فكان فعل ( الجهاد أو الهدى أو التزكى ...) الذي تفعله النفس , هو نفس الفعل ( الهدى التزكى ....) ولكن لذاتها التزكى فتتكون الجملة الشرطية من
أداة شرط + فعل الشرط + فاء السببية + إن + ما + جواب الشرط ( فعل + لام الجارة + المجرور )
من + اهتدى + ف + إن + ما + يهتدي لنفسه
والرابط الذي يربط هذه الجمل جميعا هو قالب شرطي واحد هو اتصال نفسه باللام ( فلنفسه ) , وتصبح اللام هنا للملكية أي كل شيء مكتسب للنفس التي تملكه لذاتها.
جزاء النفس السيئة
وهي مجموعة أهل الشر فإن صاحبها ( أي صاحب النفس الشريرة) يكتسبه على نفسه :
1- يونس 10\108 ( ومن ضل فإنما يضل عليها )
2- النساء 4\111 ( ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه )
3- سبأ 34\50 ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي )
4- الفتح 48\10 ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه )
لقد اتبعت هذه المجموعة نفس القالب اللغوي لتحقيق نفس الهدف , مع اختلاف واحد , فهي توضح أن أفعال الإنسان إن خيرا فلنفسه , وإن شرا فعليها .
وهذا الاختلاف بين الخير والشر كان بأداة واحدة , وهي حرف الجر ( اللام – على )
المجموعة الأولى
أولا الهدى :
1- يونس 10/108 ( فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها )
2- الإسراء 17/15 ( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها)
3-النمل 27/92 ( فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه , ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين )
4- الزمر 39/ 41 ( فمن اهتدى فلنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها )
يقول القرطبي ( أي إنما كل أحد يحاسب عن نفسه لا غيره , فمن اهتدى فثواب اهتدائه له ومن ضل فعقاب كفره عليه ).
قال الرازي ( فمن اهتدى في هذه المسائل الثلاث , وهي التوحيد والحشر والنبوة ( فإنما يهتدي لنفسه )أي منفعة اهتدائه راجعة إليه ( ومن ضل ) فلا علي وما أنا إلا رسول منذر (2))
يقول ابن عاشور ( واختيار وصف الرب المضاف إلى ضمير الناس في قوله ( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم )على اسم الجلالة للتنبيه على أنه إرشاد من الذي يحب صلاح عباده ويدعوهم إلى ما فيه نفعهم شأن من يرب , أي يسوس ويدبر ...
اللام في قوله ( لنفسه ) دالة على أن الإهتداء نعمة , وغنى , وإن الإعراض ضر على صاحبه ووجه الإتيان بطريقتي الحصر في ( فإنما يهتدي لنفسه ) وفي ( فإنما يضل عليها ) لرد على المشركين ... لأنهم يمنون عليه لو أسلموا ... فكان القصر مفيدا أن اهتدائه مقصور على تعلق اهتدائه بمعنى اللام في قوله ( لنفسه ) أي بفائدة نفسه , لا يتجاوزه إلى التعلق بفائدتي و أن ضلاله مقصور على التعلق بمعنى على نفسه , أي لمضرتها لا يتجاوزه إلى التعلق بمضرتي
1- الجامع المجلد الخامس صــ55 صــ568
2- التفسير الكبير مجلد 12 صــ 24 صــ202
وجملة ( وما أنا عليكم بوكيل ) معطوفة على جملة ( فمن اهتدى ) فهي داخلة في خبر التفريع , وإتمام للمرفع , لأنه إذا كان اهتداء المهتدي لنفسه وضلال الضال على نفسه تحقق ان النبي صلى الله عليه وسلم غير مأمور من الله بأكثر من التبليغ ... والإتيان بالجملة الاسمية المنفية للدلالة على دوام انتفاء ذلك الحكم وثباته في سائر الأحوال (1))
وكما أوضح ابن عاشور الترابط بين أركان الجملة نرى أنه يمكن تصور الجملة كالاتي :
الجملة الرئيسية
( قد جاءكم الحق من ربكم )
تتفرع والى جمل مرتبطة بالجملة الرئيسية وهي :



1- من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه 2- ومن ضل فإنما يضل عليها 3- وما أنا عليكم بوكيل
والأصل في هذا التفريع الذي ذكره ابن عاشور هو المقابلة بين الضلال والهدى وهذا ما حدث في كل الآيات الأربع , حيث الجملة الشرطية الأولى تبين نتيجة الهدى والثانية تبين نتيجة الضلال , وهو في هذه المقابلة دائما يبدأ بالهدى , ثم يليه ما يقابله , وهو الضلال , حيث يريد التبشير لا التهديد , فبلغ أولا أن الذي يهتدي فلنفسه, ثم الذي يضل فعليها في الجهة المقابلة .
وقد تكرر هذا التفريع في سورة الزمر الآية 41 – كما حدث في سورة يونس آنفا – يقول الحق في سورة الزمر (فمن اهتدى فلنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل ) الآية 42 وجاء (فلنفسه ) للتفريع الناشئ من معنى اللام , ومن الشرطية , أي من حصل منه الاهتداء في المستقبل فإن اهتداءه لفائدة نفسه لا غير , أي ليست لك فائدة من اهتدائه فائدة لذاتك
وقد لاحظ ابن عاشور هذا التشابه بين تلك الآيات فيقول ( وتقدم في نظير هذه الآية في قوله (قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) لآخر سورة يونس , وفي قوله (وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه )في آخر سورة النمل , ولكن جيء في تينك الآيتين وبصيغة قصر الاهتداء على نفس المهتدي , وترك في هذه السورة , ووجهة ذلك ان تينك الآيتين واردتان بالأمر بمخاطبة المشركين , فكان المقام فيهما مناسبا لافادة أن فائدة اهتدائهم لا تعود إلا لأنفسهم ... خلافا لهذه الآية فإنها خطاب موجه من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم , ليس فيها حال من يقول منزلة المدل باهتدائه .
أما قوله ( ومن ضل فإنما يضل عليها ) فصيغة القصر فيه لتنزيل الرسول في أسفه على ضلالهم المفضي بهم إلى العذاب منزلة من يعود عليه من ضلالهم خير فخوطب بصيغة القصر , وهو قصر قلب على خلاف مقتضى الظاهر , ولذلك اتحدت الآيات الثلاثاء في الاشتمال على قصر بالنسبة لجانب ضلالهم فإن قوله في سورة النمل ( فقل إنما أنا من المنذرين ) , هذه نكت من دقائق إعجاز القرآن (2))
1- التحوير والتنوير المجلد الخامس جــ11 صــ308
2- المرجع السابق المجلد التاسع صــ24 صــ22
المجموعة الثانية
الشكر
كذلك تأتي الآيات التي تعبر عن شكر الإنسان لله بأنه ليس لله ، بل للنفس وهى أيضا تأتي في نفس القالب اللغوي ، وهو أسلوب الشرط السابق :
أداة الشرط + فعل الشرط + جواب الشرط ( في صورة قصر )
وقد ورد ذلك في موضعين هما :
1 ـ النمل 27/40 ( ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم )
2 ـ لقمان 31/12 ( ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن الله غني حميد )
هذان القولان لرجلين الأول لنبي الله سليمان عليه السلام ، والثاني للقمان ، وهما يعلنان القول بأن شكر الإنسان لنفسه وذاته ، وفي مقابل الشكر الكفر ، وهو الإنكار لنعمة الله فقال سليمان إن ربي غني عن هذا الشكر ، وهو الكريم ، وقالها لقمان ، ولكن بأن أضاف أنه غني عن الحمد فهو حميد . قال الرازي في تفسير مقولة لقمان ( إن الله تعالى بين أن بالشكر لا ينتفع إلا الشاكر بقوله ( ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ) وبين أن بالكفر ان لا يتضرر غير الكافر بقوله ( ومن كفر فإن الله غني حميد ) أي الله غير محتاج إلى شكر حتى يتضرر بكفران الكافر ، وهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أولم يشكروه ، ......قال في الشكر ( ومن يشكر ) بصيغة المستقبل وفي الكفران ( ومن كفر فإن الله غني ) وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معني واحد ......فنقول فيه إشارة إلى معنى إرشاد إلى أمر ، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرار النعمة ، فمن شكر ينبغي أن يكرر ، والكفر ينبغي أن ينقطع فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران ، ولأن الشكر من الشاكر لا يقع بكماله ، بل أبدا يكون منه شيء في العدم يريد الشاكر إدخاله في الوجود ......فأشار إليه بصيغة المستقبل تنبيها على أن الشكر بكماله لم يوجد ، وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام ، فقال بصيغة الماضي (( والمسألة الثالثة قال تعالى هنا ( ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر ) بتقديم الشكر على الكفران ، وفي سورة الروم ( من كفر فعليه كفره ، ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون ) الروم 44
فنقول هناك كان الذكر للترهيب .....وهاهنا الذكر للترغيب ، لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد ) (1)
هذا القول للرازي أجاب عن كثير من الأسئلة ، مثل لماذا استخدم الفعل يشكر في المستقبل وكفر في الماضي ، ولماذا قدم الشكر في هذا الموضع على الكفر
ويشير الطاهر بن عاشور إلى لطائف لغوية أخرى في الآية الخاصة بلقمان فيقول ( وللتنبيه على هذا المعنى أعقب الله الشكر المأمور به ببيان أن فائدته لنفس الشاكر لا المشكور بقوله ( ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ) لأن آثار شكر الله كمالات حاصلة للشاكر ولا تنفع المشكور شيئا لغناه سبحانه عن شكر الشاكرين ، ولذلك جئ به في صورة الشرط لتحقيق التعلق بين مضمون الشرط ومضمون الجزاء فإن الشرط أدل على ذلك من الإخبار
وجئ بصيغة حصر نفع الشكر في الثبوت للشاكر بقوله ( فإنما يشكر لنفسه )
التفسير الكبير مجلد 13 ج 25 ص 126
أي ما يشكر إلا لفائدة نفسه ، ولام التعليل مؤذنة بالفائدة ، وزيد ذلك بينا بعطف ضده بقوله ( ومن كفر فإن الله غني حميد )لإفادة أن الإغراض عن الشكر بعد استشعاره
كفر للنعمة, وأن الله غني عن شكره ......والله غني عن جميع ذلك وهو حميد أي كثير المحمودية بلسان حال الكائنات كلها حتى حال الكافر به كما في قوله ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ).......وإنما قوبل الإعراض عن الشكر يوصف الله بأنه حميد, لأن الحمد والشكر متقاربان ,وفي الحديث ( الحمد رأس الشكر ) فلما لم يكن في أسماء الله تعالى اسم من مادة الشكر إلا اسمه الشكور ، وهو بمعنى شاكر ، أي شاكر لعباده عبادتهم إياه عبر هنا باسمه الحميد .
وجنئ في فعل ( يشكر ) بصيغة المضارع للإيماء إلى جدارة الشكر بالتجديد ) (1)وأضيف إلى ما قاله هؤلاء العلماء أمرين وهما استخدامه للفعل ( كفر ) وقد استخدمه الحق لأن الكفر معناه ( الإنكار ) في الأصل فمن اعترف بفضل الله وشكره فقد شكر لنفسه ومن أنكر فضل الله ، كان جواب هذا الشرط الثاني ، بأنه غني عن هذا الشكر ، ولديه من يشكرونه ويحمدونه ، ولا حاجة لشكر هذا المنكر ( الكافر )
المجموعة الثالثة
العمل
جاء المجموعة الثالثة في صورة واحدة متطابقة في موضوعين هما :
1 ـ فصلت 41/46 ( من عمل صالحاً فلنفسه )
2 ـ الجاثية 45/15 ( من عمل صالحا فلنفسه )
أول ما نلاحظه هنا في هذا التركيب أنه جاء في أسلوب شرط قصير وهو
أداة الشرط + فعل الشرط ومفعوله + جواب الشرط
والجواب و يتكون من : فاء السببية + لام الجارة ( لام الملكية ) + المجرور ، وهو المفعول في الأصل
وحذف : فعل جواب الشرط وفاعله وأصل الجملة فقد عمل لنفسه .
وقد جاءت الجملة في هذه الصورة المختصرة ,لتفيد مباشرة نتائج العمل للمفعول, مما استدعى حذف الفعل والفاعل اعتماداً على فعل الشرط ) ، لأنه نفس الفعل ، فالمقام استدعى هذا الحذف ,فيصبح المفعول ظاهراً وقريبا من الحدث ( عمل )
كما أن الفعل في الحالتين السابقتين ( الهدى والشكر )يمكن فيهما الانتظار ، أما العمل فإنه يستدعى سرعة الأجر بعد العمل مباشرة ، فأوضحت الآية مباشرة صاحب الأجر على هذا العمل .
وقد جاءت نفس الآية في موضع ثالث بنفس التركيب ، ولكن مع إثبات المحذوف ، وهو الفعل الخاص بجواب الشرط وذكر الفاعل أيضا في سورة الروم 30/44 ( ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ) أي يمهدون لأنفسهم ، وهو نفس التركيب الشرطي مع ذكر الفاعل الخاص بجواب الشرط وفاعل . وهذا هو الموضع الثالث الذي يذكر أن العمل الصالح جزاؤه للنفس ، لا للغير
وكما رأينا دائماً جواب الشرط عبارة عن لام الملكية ، وكلمة ( النفس ) مباشرة تليها, ثم يأتي بعد النفس فعل الجملة ( أي جملة جواب الشرط ) وغيره ، فهي تقدم هنا للأهمية ، وللإشارة إلى أن العمل الصالح لذات نفس الفاعل لا لغيره.
التحوير والتنوير مجلد 8 ج 19 ص 151 ـ 153
رابعا : النفس والغيب
عبر القرآن الكريم عن صلة النفس بالأشياء الغيبية ، والنفس إما أن يقصد بها الشيء المادي أي الجسد ، أو الشيء الغيبي وهو الروح, أو هي في بعض الآراء ـ امتزاج الجسد بالروح ، وقد جاءت آيات كثيرة تعبر عن هذا الغيب ، باعتبار النفس المخزن الكبير لأسرار الإنسان ، لكن هذا لا يخفى على الله فنجد آيات تعبر عن
أ ـ ما يخفيه الإنسان في نفسه نحو :
1 ـ يوسف 12/77 ( فأسرها يوسف في نفسه )
2 يوسف 12/68 ( إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها )
3 ـ الإسراء 17/25 ( ربكم أعلم بما في نفوسكم )
4 ـ ـ طه 20/67 ( فأوجس في نفسه خيفة موسى )
5 ـ الأحزاب 33/37 ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه )
ق 50/16 ( ونعلم ما توسوس به نفسه )
ب ـ علم الله بما في النفوس ( غيب النفس ) وجهل النفس الإنسانية
1 ـ المائدة 5/116 ( تعلم ما في نفس ولا أعلم ما في نفسك )
2 ـ المائدة 5/116 ( ما تدري نفس ماذا تكسب غداً ، وما تدري نفس بأي أرض تموت )
3 طه 20/41 ( واصطنعتك لنفس )
4 ـ السجدة 32/17 ( فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين )
ج ـ حديث النفس :
1 ـ الأعراف 7/205 ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية )
2 ـ يوسف 12/54 ( وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي )
3 ـ طه 20/196 ( وكذلك سولت لي نفسي )
هذه الأمور الغيبية توضح أن النفس صندوق لتلك الأسرار ولكنها لا تخفى على الله ، ويستطيع الإنسان أن يخفي فيها كل شئونه ومشاعره من فرح وحزن وخوف أو حاجه أو وساوس أو ذكر الله
وهى تجهل ما في غيرها من النفوس من الأسرار السابقة ، وهى أيضا ما في نفس خالقها .
المصاحبات اللغوية :
وقد جاءت الآيات في قالب لغوي يؤكد هذا المعنى مستخدما أدوات لغوية توضح هذا المعنى مثل :
1 ـ الجر ( في ) دليل على الاحتواء فكل آية تشير احتواء النفس على شيء من الأشياء السابقة نجده مسبوقا بكلمة في نحو ( فأسرها يوسف في نفسه ) ( فأوجس في نفسه ) ( إلا حاجة في نفس يعقوب )
( اعلم بما في نفوسكم ) ( وتخفي في نفسك ) ( وتعلم ما في نفسي ) ( لا أعلم ما في نفسك )
( اذكر ربك في نفسك )
ففي كل هذه المواضع نجد ( في ) تسبق كلمة النفس
2 ـ نجد كلمة نفس في هذه المواضع مضافة إلى ضمير ( غائب مخاطب متكلم) أو اسم ظاهر حسب السياق لتوضيح اختلاف الأنفس من نفس فلان إلى فلان واتفاقها في الصفة ( احتواء الأسرار )
3 ـ وانطلاقا من هذا الباب صفة النفس ( الإخفاء واحتواء الأسرار ) يقابلها العلم والدراية فهي تعلم ولا تعلم ، وتدري ولا تدري ، ولهذا استخدم الفعل علم ودرى بكثرة نحو ( فلا تعلم نفس ما أخفى لهم ) ( وتعلم ما في نفس ولا أعلم ما في نفسك ) ( ربكم أعلم بما في نفوسكم ) ( ونعلم ما توسوس به نفسه ) ( وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت ) ويقابله الفعل أخفى وأسر
( فأسرها يوسف في نفسه ) ( وتخفي في نفسك )
الخاتمة
وبعد دراسة هذه النصوص القرآنية حول النفس الإنسانية نستطيع أن نقول : إن كل من التركيب والدلالة
تعاونا معاً لتوضيح الهدف المرجو من تلك النصوص فقد استطاعت اللغة بوسائلها المختلفة أن تحقق لنا هذا الأمر ، فنجد التركيب لها وسائلها الخاصة من استخدام حروف معينة وأفعال ذات أزمنة محددة وألفاظ مخصوصة لتوضح المعنى المقصود من الآيات كما في هذه الآية ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) كان حرف الجر ( في ) له دلالة قوية ومؤثرة على المعنى وهى دلالة الاحتواء أي أن معجزة الخالق للإنسان تكمن داخل الإنسان فيجب على الإنسان إن ينظر في نفسه ليرى إعجاز الخالق ، وكانت النفس خير لفظة للإشارة إلى موضع الإعجاز ووجوب التعمق فيه ، وحتى ضمير المخاطب الكاف ، وميم الجمع حمل كل منهما دلالة كبيرة على المعنى المطلوب ، وهو توجيه الخطاب بطلب البحث إلى الإنسان ، لا بل إلى الإنسانية جمعاء .
ثم جاء الاستفهام الاستنكاري الذي يستنكر على بني البشر عدم إدراكهم لمعجزة خلقهم ومعرفة خالقهم رغم أنهم يبصرون ، ولهذا سألهم أفلا تبصرون
فيتضح من ذلك أنه لا يسأل عن البصر إنما يسأل عن البصيرة ، فهم يبصرون ولا يبصرون . وتلك إعجاز اللغة أن تحمل العبارة الشيء وضده ،فهم يبصرون ولا يرون نور الحق في آيات خلقه ، لا فيما حولهم ، بل لا
يرون إعجاز فيهم
ولهذا نقول : يجب على قارئ القرآن والباحث في معانيه أن يتزود بعلم آخر إلى جانب علم الدلالة وهو علم التراكيب أو النحو ليستطيع الوصول إلى كنوز المعاني التي تحتويها الآيات .
وهذا ما حاولت فعله في تلك الدراسة التطبيقية في آيات القرآن الكريم وأرجو من الله أن يكون هذا العمل بداية لأعمال أخرى في ظل الكتاب الكريم تساعدنا على فهم آياته العظام ، بل أرجو من الباحثين في هذا المجال السير في هذا الطريق واستكماله
والله المستعان وهو ولي التوفيق
المراجع
1 ـ أثر السانيات في النقد العربي الحديث ، توفيق الزيدي ، الدار العربية للكتاب التونسي 1984 م
2 ـ البيان في غريب إعراب القرآن ، أبو البركات بن الأنباري ، الهيئة المصرية العامة 1980 م
3 ـ التحليل الدلالي للجملة العربية د . عبد الرحمن أيوب ، المجلة العربية للعلوم الإنسانية عدد 10م3/1983 م
4 ـ التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة د . محمود عكاشة ، دار النشر للجامعات القاهرة /2005 م
5 ـ التحرير والتنوير . الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ، دار سحنون للنشر والتوزيع تونس دت
6 ـ تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ، المكتبة العصرية ـ صيدا ـ بيروت 2004 م
7 ـ تفسير القرآن العظيم، علم الدين السخاوي ، رسالة دكتوراه د . أحمد طه رضوان جامعة الفيوم دار العلوم 2003 م
8 ـ التفسير الكبير للأمام فخر الدين الرازي ، ت هاني الحاج ، المكتبة التوفيقية القاهرة د .ت
9 ـ التكملة والذيل والصلة للزبيدي ، مجمع اللغة العربية القاهرة د .ت
10 ـ الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي ، ت د . محمد إبراهيم الحفناوي ، دار الحديث القاهرة 1994 م
11 ـ جامع البيان في تأويل القرآن ، ابن جرير الطبري ، ت هاني الحاج وآخرين المكتبة التوفيقية القاهرة 2004 م
12 ـ الخصائص لابن جني ت ـ محمد على النجار دار الكتب المصرية 1952 م
13 ـ دراسات في علم اللغة القسم الثاني د . كمال بشر دار المعارف ط 2/1971 م
14 ـ دراسة لغوية لصور التماسك النصي د . مصطفى قطب ، دار العلوم 1417 ه / 1996 م
15 ـ دلائل الإعجاز عبد القاهر الجرجاني ، ت محمود شاكر ، مطبعة المدني القاهرة 1992 م
16 ـ روح المعاني ، الألوسي البغدادي ، دار أحياء التراث العربي ببيروت لبنان 1985 م
17 ـ شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ت . محي الدين عبد الحميد المكتبة العصرية صيدا ببيروت 2002م
18 ـ المعجم الوجيز ـ مجمع اللغة العربية القاهرة 2000م
19 ـ علم الدلالة د . محمود جاب الرب مطبعة عامر المنصورة 1991 م
20 ـ العلوم اللغوية الحديثة ونظرية تشومسكي مكتبة الأصمعي الدمام السعودية 2006 م
21 ـ القاموس المحيط ، الفيروز أبادي بيت الأفكار الدولية لبنان 2004 م
22 ـ الكشاف ، الزمخشري القاهرة 1948 م
23 ـ المثال السائر في أدب الكاتب ، لابن الأثير تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ، المكتبة العصرية لبنان ـ1990م
24 ـ مفتاح العلوم ، للسكاكي، طبيعة التقدم ، القاهرة 1348 هـ
25 ـ نصوص قرآنية في النفس الإنسانية د . عز الدين إسماعيل / دار الغريب للطباعة والنشر القاهرة 1977 م
الفهرس
التقديم
الباب الأول ( الدلالة والتركيب )
الفصل الأول
( آراء القدماء في العلاقة بين الدلالة والتركيب )
عبد القاهر الجرجاني ـ ابن جني ـ ابن الأثير
الفصل الثاني
آراء المحدثين في العلاقة بين الدلالة والتركيب
المدرسة البنيوية فيرث ـ المدرسة التحويلية التوليدية نشوسكي
الباب الثاني
الدراسة التطبيقية لبعض آيات النفس في القرآن الكريم
الفصل الأول

( طبيعة النفس الإنسانية )
خلق الإنسان
موت الإنسان
الفصل الثاني
صفات النفس الإنسانية
أولاً : الجزاء والكسب والسعي
ثانيا : التكليف النفس
ثالثا : النفس والغيب
الخاتمة
المراجع والمصادر
الفهرس
المشرف العام
المشرف العام
Admin

عدد المساهمات : 29
تاريخ التسجيل : 13/06/2010

http://almadawe.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

العلاقة بين الدلالة والتركيب . دراسات تطبيقية لبعض آيات النفس في القرآن الكريم أ. د  عطية سليمان أحمد الجزء الأول Empty رد: العلاقة بين الدلالة والتركيب . دراسات تطبيقية لبعض آيات النفس في القرآن الكريم أ. د عطية سليمان أحمد الجزء الأول

مُساهمة  ليندة الإثنين 22 نوفمبر 2010 - 5:12

المشرف العام كتب:الباب الأول :
(( الدلالة التركيب ))
إن مفهوم النحو في القديم يعني دراسة نظام ترتيب الجمل والنظام الصوتي والنظام الصرفي ، وهو ما يظهر في مؤلفات القدماء في موضوع النحو ، ويبدو أكثر في تعريفهم لعلم النحو ، قال ابن جني في باب القول على النحو ( هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره ، كالتثنية والجمع ، والتحقير والتكسير والإضافة ، والنسب ، والتركيب وغير ذلك ( 1 )
واعتبر كثير من علماء العربية وظيفة القواعد النحوية دلالية ، ولم ينظروا إلى تلك القواعد نظرة سطحية لا تتجاوز ترتيب الألفاظ على نظام القواعد فحسب ، بل تخطوا ذلك إلى العلاقة بين المفردات والتركيب ، قال السكاكي ( اعلم أن علم النحو هو أن تنحو إلى معرفة التركيب فيما بين الكلم لتأدية أصل المعنى مطلقا بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب وقوانين مبنية عليها ليحترز بها عن الخطأ في التركيب من حيث تلك الكيفية ، وأعني بكيفية التركيب تقديم بعض الكلم على بعض ، ورعاية ما يكون من الهيئات إذ ذاك ) (2)
والصرف وثيق الصلة بالتركيب ولا يمكن الفصل بينهما ، فوظائف المفردات في التراكيب تحدد من خلال بنيتها الصرفية ، فالبنية الصرفية هى التي تحدد زمن الفعل وفاعله ، وتدل الصيغة أيضا على أبنية الفاعل والمفعول والصفة ، وصيغ المبالغة ، وتوظيف الكلمات في التراكيب بناء على صيغتها الصرفية . ولهذا فعلم الصرف هو الذي يحدد دلالة مفردات التركيب في الجمل ، وعلم النحو هو الذي يضع ترتيبها ، ويحدد وظيفتها بناء على دلالتها الصرفية والمعجمية (3)
( الدلالة التركيبية )
ظهر علم جديد يسمى علم الدلالة التركيبية ، وهو العلم الذي يهتم ببيان معنى الجملة أو العبارة ، وقد عرف هذا النوع من دراسة دلالة الجملة بعلم الدلالة التركيبية أو علم دلالة الجملة في الغرب ، وقد بدأ عند الغربيين من خلال البحوث الدلالية التركيبية في علم النحو التحويلي ، ومعنى الجملة عند الغربيين يعني وظيفة معاني أجزائها ، أو معنى الوحدات القاموسية والصلات الدلالية بين مكونات الجملة ، كما بحثوا معنى الوحدات الصرفية ( المورفيمات المفردة ) والمعاني التي تتحقق من الصلات النحوية بين هذه الوحدات .
إن القضية التي ندرسها ليست قضية وظيفة معنى لفظ في تركيب ، بل المقصد هو دلالة التركيب أو الجملة ، وعلاقته المتماسكة وأثرها في المعنى ، والمتلقي يدرك بوعيه اللغوي مقاصد اللغة ، ومعاني الألفاظ ترتبط بالسياق النصي العام الذي جاءت فيه ، وتعد دراسة النص من خلال تركيبه هي الأساس في فهم دلالته ، لأن التركيب متى افتقد لدلالة افتقد قيمته ، وقيمة المفردات في وظائفها الدلالية (4)
إن النحو يقوم ببحث العلاقات التي تربط بين الكلمات في الجملة الواحدة ، وبيان وظائفها

1 ـ الخصائص لابن جني تحقيق محمد على النجار دار الكتب المصرية 1952 ج1/34
2 ـ مفتاح العلوم ، السكاكي ، أبو يعقوب يوسف ابن أبي بكر ، طبعة التقدم القاهرة 1348 ص33
3 ـ التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة د . محمود عكاشة ، دار النشر للجامعات القاهرة 2005 ص 117
4 ـ أثر اللسانيات في النقد العربي الحديث ، توفيق الزيدي الدار العربية للكتاب تونس 1984 ص 73
إذ أنه وسيلة نحو التفسير النهائي لتعقيدات التركيب اللغوي ، والدلالة هى التي تبرز الاختلاف بين التراكيب المختلفة ، فالنحو والدلالة يتعاونان معا على توضيح النص وتفسيره واتجهت الدراسات اللغوية الحديثة إلى الربط بينهما في بناء اللغة ) إن الدلالة التركيبية هى الدلالة الناشئة عن العلاقة بين وحدات التركيب أو المستمد من ترتيب وحداته على نحو يوافق القواعد ، فالنظام التركيبي ذو فاعلية في خلق المعنى المتعدد ، فهو جزء أساسي من حيوية اللغة .
الفصل الأول
رأي القدماء في العلاقة بين المعنى والتركيب :

لقد بذل القدماء ما في وسعهم من أجل توضيح العلاقة بين المعنى والتركيب ، فهم يرون أن النظام التركيبي ذو فاعلية في خلق المعنى المتعدد ، فاتجهوا إلى المعنى ، فالجملة تشكل شبكة من العلاقات السياقية التي يقوم كل علاقة منها عند وضوحها مقام القرينة المعنوية ، والتي تعتمد في وضوحها على التآخي بينها وبين القرائن اللفظية في السياق ، فقد خرج النحو من إطار الكلمة ووظيفتها في التركيب إلى نطاق السياق ، بل امتد دور النحو في دراسة النص جميعه ، فلقد تخطى دور النحو الإعراب ومشكلاته على مستوى الكلمة ، وتعداه على مستوى التركيب ، وما يتعلق به من وظائف الكلمات والعلاقة المعنوية التي تربط مفرداته ومسائل نظم الكلام وتأليفه ) (2)
وقد استطاع ابن جني وعبد القادر الجرجاني أن يكشفا العلاقات الداخلية بين المفردات التي يتألف منها التركيب ، وجعل ابن جني المعنى أساس صحة التركيب النحوي وقبوله ، كما أن عبد القاهر رأى أن اللفظ مفرداً لا يشكل قيمة دلالية ، ولا نستطيع تقييمه منفرداً بعيداً عن السياق اللغوي ، كما أن تأليف الكلام أو نظمه على قواعد النحو ، ليس أساساً في صحة التركيب ، بل الأساس اتساق التركيب في المعنى مع قواعد التركيب .
يقول عبد القاهر الجرجاني في هذا ( واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه
( علم النحو ) وتعمل على قوانينه وأصوله ، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها ، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك ، فلا تخل بشيء منها .....هذا هو السبيل ، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا ، وخطؤه إن كان خطأ ، إلى النظم ، ويدخل تحت هذا الاسم إلا وهو معنى من معاني النحو ، قد أصيب به موضعه ، ووضع في حقه ، أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه ، واستعمل في غير ما ينبغي له ، فلا ترى كلاما قد وصف بالصحة نظم أو فساده ، أو وصف بمزية وفضل فيه ، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك الميزة وذلك الفضل ، إلى معاني النحو وأحكامه ، ووجدته يدخل في أصل من أصوله ويتصل باب من أبوابه (3)
1 ـ أثر اللسانيات في النقد العربي الحديث ، توفيق الزيدي ، الدار العربية للكتاب تونس 1984م ص 73
2 ـ دراسات في علم اللغة القسم الثاني د . كمال بشر ، دار المعارف ط 2/1971م ص94
3 ـ دلائل الإعجاز ، عبد القاهر الجرجاني ، تحقيق محمود شاكر ، مطبعة المدني 1992م ص81
قام ابن جني بدراسة رائدة في علاقة النحو بالمعنى فأطلق على معنى التركيب اسم الدلالة المعنوية
ويقصد بها ( المعنى الذي يتحقق من تراكيب الكلام . وذلك من خلال العلاقات الإعرابية أو العلاقات التي يقيمها نظام الإعراب ، وهى علاقات معنوية تنشأ في التركيب ....ويؤكد ابن جني أن وظيفة الألفاظ في التركيب تبين من ناحية المعنى لا من ناحية اللفظ ( فقد عملت أن دلالة المثال على الفاعل من جهة معناه ) (1)وسيطرت فكرة الدلالة التركيبية أو الدلالة الجملة على ابن جني ولهذا نجده يحكم بفساد التركيب لفساد معناه ، وإن صح التركيب شكلاً ( ومن المحال أن تنقض أول كلامك بآخره ، وذلك كقوله : قمت غداً ، أو سأقوم أمس ) (2)
واستشهد ابن جني على فساد بعض التراكيب لتناقضها في المعنى ، مثل الياقوت أفضل الطعام، وزيد أفضل الحمير ........وتبين من ذلك أن التركيب يصبح فاسداً إذا تناقض منطقياً أو استحال قبول معناه عقلا ، وهذا سبق فريد من ابن جني حيث ربط بين المعنى والشكل ، فرفض التراكيب الشكلية المصنوعة التي لا تتسق مع الواقع والعقل ، فالدلالة عنده تقوم على صحة الشكل والمضمون معاً ، فلا يكفي صحة الإعراب في بناء الجملة بل من الضروري اتساق المعنى مع الواقع وقبوله منطقيا . وتوسع في ذلك فربط بين المضمون والعالم الخارجي ، وذهب إلى ضرورة اتساق المضمون مع العالم الخارجي ) (3)
عبد القاهر الجرجاني :
وذهب عبد القاهر مذهب ابن جني ، فأبطل كثيرا من التراكيب التي يستحيل حدوث معناها ، كعموم النفي في مثل : ما أكلت شيئاً ، ومارأيت أحداً من الناس ، وأنت مبصر ...وضرب عبد القاهر كثيراً من الأمثلة على فساد التركيب نحو قول الفرزدق يمدح إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك الخليفة قائلا :
وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه
أي وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبو يعني المملك هشاماً ، وأبو أم ذلك المملك أبو هذا الممدوح .
ويعقب على تلك الشواهد بقوله : وفي نظائر ذلك مما وصفوه بفساد النظم ، وعابوه من جهة سوء التأليف
أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب ، وصنع في تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار أو غير ذلك مما ليس يصنعه ، وما لا يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم ) (4)
وتعد نظرية النظم التي وضعها عبد القاهر وآراؤه التي دارت في رحا التركيب والمعنى صدى لجهود ابن جني ( ت391 هـ ) والنتائج التي توصل إليها ثمرة القضايا اللغوية التي عالجها ابن جني في كتابه الخصائص ، فنظرية النظم ليست إلا تطويراً لما قاله ابن جني
1 ـ الخصائص ج3 /99
2 ـ الخصائص ج3 /331
3 ـ التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة 132
4 ـ دلائل الإعجاز ص84
من ضرورة مراعاة المعنى في صناعة التركيب ، واتساق معنى التركيب مع الفكرة وعدم مخالفة الواقع ، كما أنه اهتم بالشكل التركيبي ، وجعل المعنى العلاقة التي تربط بين عناصره (1)
يعد عبد القاهر أكثر علماء العربية القدماء اهتماما بدراسة العلاقات التركيبية ، ومعنى التراكيب وإمامه في ذلك ابن جني ، وذلك من خلال نظرية النظم التي تقوم على تناسق دلالة الألفاظ ، وتلاقي معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل ، وأن يأتي ترتيب توالي الألفاظ في النص على ترتيب المعاني في النفس ، قال وأن يتوخى المتكلم في ذلك معنى الإعراب وقواعد اللغة واعتبر عبد القاهر دور الفكرة في النظم( فينبغي أن ينظر في الفكر ، بماذا تلبس ؟ أبالمعاني أو بالألفاظ ؟ فأي شيء وجدته الذي تلبس به فكرك من بين المعاني والألفاظ ، فهو الذي تحدث فيه صنعتك ) (2)
ويرى عبد القاهر ضرورة مراعاة قواعد اللغة الشكلية والعلاقات الداخلية التي تربط بين أجزاء التراكيب ، والتي تتمثل في المعنى و الألفاظ عنده لبن هذا البناء أو المادة التي يقوم عليهانظم الكلام ، وتأتي في المرحلة الثانية بعد المعاني ( بان بذلك أن الأمر على ما قلنا ، من أن اللفظ تتبع للمعنى في النظم ، وأن الكلم ترتب في النطق بسبب ترتيب معانيها في النفس ......فالألفاظ خدم للمعاني ، فمعرفة المعاني تأتي في المقام الأول ، ثم مطابقة الألفاظ المعاني ، ثم ترتيب المعاني في النفس ثم تأتي في المرحلة الأخيرة وهى ترتيب الألفاظ بما يتفق مع الفكر أو على نسق الفكر ) (3)
ابن الأثير :
وقد ذهب ابن الأثير مذهب الجرجاني في أن التفاضل يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها
فقال ( واعلم أن تفاوت التفاضل يقع في تركيب الألفاظ أكثر ما يقع في مفرداتها ، لأن التركيب أعسر وأشق ، ألا ترى ألفاظ القرآن الكريم من حيث انفرادها قد استعملها العرب ومن بعدهم ، ومع ذلك فإنه يفوق جميع كلامهم ويعلو عليه ، وليس ذلك إلا لفضيلة التركيب (4) ، ثم يذكر مثالاً على ذلك فيقول ( وهل تشك أيها المتأمل لكتابنا هذا إذا فكرت في قوله تعالى ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ، وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودي ، وقيل بعداً للقوم الظالمين ) (هود 44 )
أنك لم تجد ما وجدته لهذه الألفاظ من المزية الظاهرة إلا لأمر يرجع إلى تركيبها ، وأنه لم يعرض لها هذا الحسن إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية ، والثالثة بالرابعة ، وكذلك إلى آخرها ، فإن ارتبت في ذلك فتأمل هل ترى لفظة منها لو أخذت من مكانها ، وأفردت من بين أخواتها كانت لابسة من الحسن مالبسة في موضعها من الآية ، ومما في كلام آخر فتكرهها ، فهذا ينكره من لم يذق طعم الفصاحة ولا عرف أسرار الألفاظ في تركيبها وانفرادها(5)

1 ـ التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة 133
2 ـ دلائل الإعجاز 51
3 ـ المرجع السابق 56 ـ 54
4 ـ المثال السائر في أدب الكاتب لابن الأثير تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ـ المكتبة العصرية ـ لبنان 1990م ج1 /151
5 ـ المرجع السابق ج 1/ 152
رأي المحدثين في القديم العلاقة بين الدلالة والتركيب :
إن مصطلح النحو في الدرس العام له دلالة عامة في الدرس القديم ، ودلالة خاصة في الدرس الحديث ، فمصطلح syntax لا يعني النحو بمعناه العام وإنما يعني فرع من فروع النحو grammar ، والأخير هو الذي يقابل المعنى العام القديم ، والتركيب syntax يعني التأليف أو نظم المفردات في شكل معين ، وهو لا يعني الجملة المفيدة في كل السياقات ، فقد يعني تأليف الحروف لتكوين كلمة ، وهو ما يعرف بنظم حروف الكلمة ومصطلح syntax استخدمه التقليديون على أنه أحد فروع النحو grammar ، الذي يعالج نظام ترتيب الجملة والعلاقات التي تربط بين أجزائها وأثرها في المعنى ، وأثر إعادة ترتيب الجملة ما قد ينجم عن تلك العلاقات من تغيرات تصريفية .
وتدخل الدلالة التركيبية حديثا تحت مايطلق عليه ( علم دلالة الجملة ) أو علم الدلالة التركيبي ، وهو العلم الذي يهتم ببيان معنى الجملة أو العبارة ، وقد عرف هذا النوع من الدراسة عند الغرب بعلم الدلالة التركيبي أو علم دلالة الجملة ، وقد بدأ عند الغربيين من خلال البحوث الدلالية في علم النحو التحويلي .
ومعنى الجملة عند الغربيين يعني وظيفة معاني أجزائها ، أو معنى الوحدات القاموسية ، والصلات الدلالية بين مكونات الجملة ، كما بحثوا حتى الوحدات الصرفية ( المورفيمات المفردة ) والمعاني التي تتحقق من الصلات النحوية بين هذه الوحدات .
وقد تنبه علماء اللغة المحدثين إلى تطبيق النحو في الدلالة فاتجه البحث إلى دراسة الجمل من ناحية العلاقات السياقية أو السنتاجماتية suyntagmatic relations في مقابل الصرف الذي يدرس العلاقات الجدولية أو البراديجماتية paradigmatic (1)، وأرى أن هذا الرأي لا يتسق مع آراء النحاة العرب في وظيفة النحو ، فليست دراسة الجملة في ضوء الدلالة من صنع المحدثين ، بل هم في ذلك تابعون للقدماء من العرب ، ودراسة شكل الجملة فقط تنسب إلى البنيوية وغيرها من المذاهب الشكلية (1) والنظام التركيبي ذو فاعلية في عمل المعنى المتعدد ، فهو جزء أساسي من حيوية اللغة ، وقد بذل المتقدمون ما في وسعهم من أجل توضيح هذه الفاعلية ، فانتظام الكلمات ونوع الترابط والانفصال بين العبارات والتفاوت الملحوظ بين صيغ الكلمات في العبارة كل أولئك كان مجالا واسعاً يكشف إمكانيات غير قليلة ) (3)
لقد بالغ بعض النحاة العرب فذهبوا إلى كلمات مستترة وكلمات مقدرة ، بل لقد أعطوا هذه الكلمات أحكاما إعرابية وألزموها ضماً أو كسراً أو فتحاً ، وهذه الكلمات لا وجود لها ، وهذه الأحكام التقديرية التي تقوم على كلمات مفترضة ، وأحكام ظنية وعوامل متوهمة تشكل عقبة في طريق الدرس اللغوي الحديث ، الذي يبحث عن أيسر المناهج لتعليم اللغة ، فرأى بعض العلماء ضرورة التخلص مما ليس له وجود أو مما ليس فيه فائدة ، ويشكل عبئا على المتعلم

1 ـ مناهج البحث في اللغة د . تمام حسان ص229 دار الثقافة 1400 هـ - 1979 م
2 ـ التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة 124
3 ـ دراسة لغوية لصور التماسك النصي د . مصطفى قطب ، دار العلوم 1417 هـ ـ 1996م ص17
وقد رأت المدرسة البنيوية أو الشكلية ـ أن تفرق بين عنصري العبارة اللغوية ( عنصر اللفظ وعنصر المعنى ) وأن تحلل كلا منهما على حدة وفقا لطبيعة كل منهما ، وذلك لأن المعنى أمر نسبي يخضع تحديده للظروف الخارجية ، الانطباعات الجانبية والحالة النفسية ، أما العبارة فهي كيان مادي محدد الأجزاء ثابت الصورة ) (1)
ولم تفصل المدرسة البنيوية بين الشكل والمعنى إلا فصلا مرحليا ، فدراسة الصورة اللفظية منفصلة عن المضمون الدلالي لا يعني إهمال الدلالة ، وذلك لأنه على الباحث أن يربط كل صورة لفظية بقالبها الدلالي .
وقد رأى فيرث أن المعنى موجود حتى على المستوى الصوتي ، وهو في هذا يعتمد على نظرية تقول إن تمييز فرد من أفراد مجموعة عن سواه يعني تحديد مدلوله ، والتاء غير الهاء والقاف غير الكاف لما بين كل فرد من أفراد هاتين المقابلتين من وجوه شبه ووجوه اختلاف تميز واحداً منها عن الآخر ، وهذا التمييز في حد ذاته دلالة على مستوى هذه المقارنة ، وتوجد على المستوى الصرفي عناصر الدلالة أيضاً ، فالصرف morpheme مجموعة من الأصوات ذات الدلالة ، والعلاقة النحوية تتضمن دلالة كذلك ، أما الدلالة القاموسية فأوضح من أن تعرف ) (2)
ويتبين من ذلك أهمية دور النحو في تحديد المعنى ، فالغاية من دراسة النحو هى فهم تحليل بناء الجملة تحليلاً لغوياً يكشف عن أجزائها ، ويوضح عناصر تركيبها ، وترابط هذه العناصر ببعضها الآخر ، لتؤدي معنى مفيدا ، ويبين علائق هذا البناء ، ووسائل الربط بينه ، والعلامات اللغوية الخاصة بكل وسيلة من هذه الوسائل ) (3)
تشوسكي : كانت قضية المعنى من أسباب ثورة تشومسكي على المنهج البنيوي حيث لاحظ أنه غير على شرح العلاقات التي يمكن أن تقوم بين مختلف الجمل ، فقد تشترك جملتان في الشكل على حين تختلفان اختلافاً جذرياً في المعنى نحو :
1 ـ صراخ المجرم لم يؤثر في الناس
2 ـ عقاب المجرم لم يؤثر في الناس
فالجملتان من حيث الشكل الخارجي متشابهتان تماماً ، في علاقة المفردات ببعضها .......ومع ذلك فالمعنيان مختلفان ، فتحليل ظاهر اللغة أو شكلها الخارجي لا يفسر دائما المعنى ، فالجملتان متشابهان في المظهر الخارجي ويحللان شكلياً بصورة واحدة ،ولكن المعنى مختلف تماماً ) (4)
لقد ميز علما اللغة الحديث بين الجمل غير المقبولة لأسباب نحوية ، والجمل غير المقبولة لأسباب قاموسية أو لأسباب تتعلق بالمعنى ، فالجملة قد تكون صحيحة نحوياً ، ولكنها ليست كذلك دلالياً ، وقد ذكر تشوسكي جملة أصبحت شهيرة في الدراسات اللغوية المعاصرة للدلالة على ذلك ، وهى الأحلام أو الأفكار الخضراء عديمة اللون تنام غاضبة

1 ـ التحليل الدلالي للجملة العربية د . عبد الرحمن أيوب ، المجلة العربية للعلوم الإنسانية عدد /10م 3/1983 ص108
2 ـ المرجع السابق ص109
3 ـ التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة 127
4 ـ العلوم اللغوية ونظرية تشوسكي د . عطية سليمان أحمد الأصمعي 2006 الدمام
فالجملة صحيحة من ناحية الشكل ومنحرفة قاموسياً ، أو غير مقبولة من ناحية المعنى ، ومن ثم فقد رأى تشومسكي أنها ليست نحوية أيضاً (1)
هذه الآراء حول صلة الدلالة والمعنى بالتركيب تحدث عنه كما رأينا القدماء بما يتضح معه مدى الحاجة إلى دراسة تطبيقية لتوضيح مدى الترابط بين العلمين ( علم الدلالة وعلم النحو ) وقد قمت بهذا العمل من خلال دراسة بعض النصوص القرآنية التي تتصل بالنفس الإنسانية ، وقسمتها إلى محاور ـ كما يبدو من الدراسة التطبيقية ـ وجمعت الآيات المتشابهة من حيث المعنى والتركيب وتدور حول شيء واحد هو محور هذه المجموعة من الآيات ، فلاحظت أوجه الخلاف والاتفاق بينهما وإلى أي مدى يخدم هذا الخلاف أو الاتفاق المعنى أو أي مدى نجحت التراكيب اللغوية للآية في تصور المعنى المقصود منها .
1 ـ علم الدلالة د . محمود جاد الرب مطبعة عامر بالمنصورة 1991 ص33
دراسات تطبيقية لبعض آيات النفس في القرآن الكريم
وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تحتوي على كلمة نفس ، فلماذا هذه الكلمة دون غيرها ؟ .
لقد كانت هذه الكلمة خير تعبير عن الذات الإنسانية , حيث ترتبط الإنسان قبل ولادته حتى بعثه
ودخوله الجنة أو النار ، فالمقصود بها هذا الشيء كائنا ما كان ( إنسان ـ حيوان ـ جماد ـ ملاك ـ شيطان )
في كل حالاته حياً ميتا مبعوثاً بعد الموت في الدار الآخرة .
فهي لفظة شاملة لكل شيء ، وللشيء في كل حالاته ( مادياً أو معنوياً ) محسوساً أو مفهوما ‘ ولهذا يعبر
الحق عنها في القرآن الكريم كشيء مجسد محسوس حتى بعد فناء صاحبها لأنها الشيء الذي لا يفنى ،
فأصبح قوله تعالى ( كل من عليها فان ) (1) يقصد به فناء الجسد ، أما النفس فما زالت باقية فيه ، فهي
لا تفنى ، فتشهد حياة البرزخ ، ثم البعث والحساب وينتهي بها المآل إلى جنة أو إلى النار ،
ولهذا كان التعبير بكلمة نفس دون غيرها أصح وأدق الألفاظ وذلك لإشارتها إلى شيء خالد لا يموت .
أما كيف تناولها التعبير القرآني ، فإن هذا هو مدار الحديث في هذا البحث ، حيث نتناول هنا جانبين من
القضية .
الأول : المواقف أو الموضوعات التي تخص النفس الإنسانية وتعرض لها القرآن الكريم ، وإن كنا
سنختار أهم الموضوعات وليس كل الموضوعات التي ذكرها القرآن الكريم
الثاني : الطريقة اللغوية التي عبر بها القرآن الكريم عن تلك المواقف ، ويأخذ هذا الأمر عدة جوانب
حيث ندرس بناء الجمل التي وردت فيها كلمة نفس من الجانب الصوتي والدلالي والبنائي والتركيبي .
وكذلك المقارنة بين الآيات المتشابهة لمعرفة أوجه الخلاف والتشابه بينها، وسبب ذلك ، ونحاول
أن نصل من خلال الآيات إلى أن نطابق بين المقصود من العبارة القرآنية ، وما قاله المفسرون وما يقوله
النص من خلال التحليل اللغوي له ، وهو الهدف من الدراسة ، فهي دراسة لغوية لآيات النفس في القرآن
الكريم ، وكذلك يمكن أن نعرف ما هى النفس الإنسانية من خلال تحليل الآيات القرآنية
( أهم المحاور التي تدور حولها لفظ نفس في القرآن الكريم )

1 ـ خلق الإنسان
2 ـ موت الإنسان
3 ـ طبيعة النفس الإنسانية
جزاء النفس في الآخرة
تكليف النفس
هداية النفس
ظلم النفس
البخل و الشح ومقاومتها
1 ـ الرحمن 55/26
الفصل الأول
اللغة وطبيعة النفس القرآنية

عبرت الآيات القرآنية عن النفس الإنسانية في حالاتها مختلفة ( موت ـ البدء ـ الهدى ـ الضلال ....... )
بعبارات متنوعة تصور كل حالة على حدة وبطريقة متباينة ، فتقوم اللغة بالتعبير عن تلك الحالة
بوسائلها المختلفة ، ونحن هنا إذ ندرس اللغة من خلال معاني النفس في القرآن ، نحاول أن نلقي الضوء على تل الوسائل .
موضحين دورها الدلالي والتركيبي في التعبير عن خصائص هذه الحالة ، وإلى أي مدى نجحت تلك الوسائل
في توضيح معنى الآية والمقصود منها .
كما ذكرت آنفاً أن الآيات تناولت الحديث عن النفس بصور وحالات مختلفة ، ونحاول هنا أن نتناول بعض
تلك الحالات باعتبارها محاور للبحث ، فكان أول محور للدراسة هو :
’’ حالة البدء ’’
( خـلق الإنسان )

وهى بداية خلق الإنسان ، قد جاءت آيات كثيرة تعبر عن تلك المرحلة في حياة الإنسان ( بداية الخلق ) وهى في أغلبها جاءت بنص واحد مع اختلاف في المقام الذي تقال فيه ، وما يحيط بالقالب اللغوي الواحد من عبارات مختلفة ، وقد قسمت الآيات لمجموعتين
( أ ) المجموعة الأولى
1 ـ النساء 4/1( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً
كثيراً ونساء )
2 ـ الأنعام 6/98 ( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع )
3 ـ الأعراف 7/189 ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ‘ وجعل منها زوجها ليسكن إليها )
4 ـ الزمر 39/6 ( خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها )
المجموعة الثانية ( ب )
1 ـ الروم 3/21 ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ، وجعل بينكم مودة ورحمة )
2 ـ لقمان 31/28 ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير )
3 ـ الشمس 91/7 ( ونفس وما سواها )
في المجموعة ( أ )
أولا ً : أوجه الاتفاق بين الآيات : ( المجموعة الأولى من الآيات ) ( أ )
نجد الحق تبارك وتعالى يخبرنا أنه خلقنا من نفس واحدة ، وهى كما أجمع المفسرون آدم ، وخلق منه زوجته حواء ، والقالب اللغوي الذي عبر عن ذلك هو قوله تعالى
الذي خلقكم من نفس واحدة (النساء )
هو الذي أنشأكم من نفس واحدة ( الأنعام )
هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( الأعراف )
خلقكم من نفس واحدة ( الزمر )
الفعل (خلقكم ) + من + نفس + واحدة
فهو توضيح وتأكيد من الحق تبارك وتعالى أنها نفس واحدة ، فنجد لفظة واحدة تشمل الفعل والفاعل
والمفعول ، وهي ( خلقكم )أفادت معنى كاملا ،ً وهو الخلق ( الفعل ) مسند إلى صاحبه تبارك وتعالى
( الله )
ومع مخلوقاته ، وصنعته هو البشر ، كل هذا نفهمه من كلمة واحدة ( خلقكم ) فلا حاجه هنا إلى الإطالة
فهو حكم يصدره الحق تبارك وتعالى على الخلائق بأنهم جميعاً صنعته ، ولهذا تكررت أربع مرات بنفس القالب اللغوي في صورة لفظة واحدة لتختصر كل ما يقال حول ذلك من أكاذيب ، وجاء فعلها في زمن الماضي إعلاماً بأن هذا الأمر قد مضى وانتهى ، ثم كرر كلمة نفس أربع مرات وكذلك وصفها بواحدة لتأكيد المعنى .
وقد تناوبت الآيات بين الفعل ( خلقكم والفعل أنشأكم )فجاء الفعل خلق ثلاث مرات
أنشأ مرة واحدة ، فالأول مكون من ثلاثة أحرف والثاني من أربع أحرف ، فكان الثلاثي أكثر لتتحقق فيه صفة الحكم على البشر في كلمة واحدة أحرفها أقل ، وتلك طبيعة الحكم الصادر على الشيء بأن عبارته أوجز ، فكان الفعل الأكثر تكراراً هو الأقل عدداً في الأحرف ( خلق ) وتأتي باقي العبارة
(من نفس واحدة ) فنجد أنه استخدم حرف الجر ( من ) دون غيره للتعبير عن مصدر الخلق وهو نفس آدم ، لماذا ؟ .
إن ( من تجئ للتبعيض ولبيان الجنس ولابتداء الغاية في غير الزمان كثيرا ، وفي الزمان قليلا (1)ً ومن بين معاني ( من ) يكون المعنى هنا للتبيعض حيث يشير إلى أنها بعض هذه النفس فكل أبناء آدم بعض من نفسه .
ثم تأتي كلمة (نفس ) لتطرح سؤالاً كبيراً ، هل هذا الجزء الذي خلقت منه حواء ، أهو جزء من النفس أم من الجسد ؟
لقد أجمع المفسرون على أنه خلق حواء من ضلع آدم قال الطبري ( خلقكم من نفس واحدة يعني آدم ثم خلق منها زوجها حواء خلقها من ضلع من أضلاعه (2)
إذن كيف يقول الحق تبارك وتعالى ( من نفس واحدة ) وهو من جسد آدم ؟
هذا من باب المجاز المرسل حيث أطلق الكل وأراد الجزء ( علاقة كلية ) فالنفس يقصد بها الإنسان كله
جسده وروحه ، فأطلق الكل ( النفس ) وأراد الجزء ( ضلع آدم ) وهذا أيضاً كما يقول أصحاب المعاجم أن كلمة نفس يقصد بها الروح والجسد ففي كتاب التكملة والذيل والصلة لما فات صاحب القاموس للزبيدي ( النفس بالفتح الإنسان جميعه : روحه وجسده ، إنما عبر بها عن الجملة لغلبة أوصاف الجسد على الروح حتى صار يسمى نفسا ) (3)
(كلمة واحدة ) جاءت لتأكيد فكرة محددة وهى أن المصدر الذي أتت منه الأنفس جميعاً هو نفس واحدة ( نفس آدم ) ولهذا كان الحكم على بني إسرائيل بأن من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً بالعودة إلى المصدر حيث تساوت هذه النفس المقتولة في المكانة والعظمة عند الله بالنفس الأولى ( نفس آدم )
1 ـ شرح ابن عقيل 2/17 المكتبة العصرية صيدا ـ بيروت
2 ـ الطبري 13/198 المكتبة التوفيقية القاهرة
3 ـ التكملة والذيل والصلة للزبيدي مجمع اللغة العربية ج 3 / 46
وكأن هذه النفس المقتولة شعبة من النفس الأولى من حيث التمام والكمال في التكوين ، وهذا حق
فكل الأنفس تطابق نفس آدم تماما بكل صفاتها فيكون مجمل المعنى المنشود من العبارة ( أن النفس التي خلق منها البشر جميعاً هى نفس آدم ) وأن هذا الخلق من صنع الله ، وأنه عبر عن خلق البشر وتناسلهم
من مصدر واحد أتى منه جميع البشر بكلمة واحدة هى ( نفس ) ، ولا يفهم من ذلك إلا أنه إعجاز من الله ، حيث جعل الأنفس جميعاً تأتي من نفس واحدة ، ويجعل السؤال حول كنه النفس وماهيتها محيراً .
ثانياً : الاختلاف بين الآيات :
رغم اتفاق هذه المجموعة من الآيات السابقة في إصدارها حكماً واحداً ، وهو أن الله الذي خلقنا من نفس واحدة إلا أن هذه الآيات تختلف فيما يحيط بهذا القالب اللغوي
[ هو + الذي + خلقكم + من + نفس + واحدة ]
[ مبتدأ + خبر (اسم موصول) + صلة الموصول (جملة فعلية )+ حرف جر + اسم مجرور +صفة مجرورة ]


فعل فاعل مفعول
وهذا الشكل العام للتركيب الخاص بهذه الجمل إلا أن هناك ثلاث جمل من بين الأربع جمل والتي جاءت في هذا الشكل اتبعت بما يعرف بخاتمة الآية ، والحدث عن حواء قائلا : وجعل منها زوجها ـ ثم جعل منها زوجها ـ وخلق منها زوجها وجاءت الآيات بهذا الشكل لتفيد الترتيب في مراحل الخلق ، وتشير إلى المرحلة التالية لخلق آدم ، فحوت أدوات توضح ذلك منها .
1 ـ الثلاث جمل تحتوي على ضمير واحد هو ( ها ) يعود على النفس [ منها < من + ها ]وهو يوضح أن هذه النفس ( نفس آدم ) هى مصدر الخلق التالي لآدم < حواء .
فيظهر أمر التناسل في البشر منذ أخذ فرع من آدم لخلق حواء ( ضلع منه )وهو نوع من التكاثر موجود بين النبات ، فيصبح مصدر الخلق جميعا ( آدم ) رغم كثرتهم .
2 ـ استخدم في الثلاث جمل كلمة واحدة إشارة إلى حواء ( زوجها ) وهذا لأنه يشير إلى شخص واحد في هذه الجمل ، فلا يصح التنويع خشية التضليل ، فكانت أسماء الأشخاص ثابتة : آدم = نفس ( زوجها ) + حواء .
3 ـ التنوع في الفعل : ( جعل )جاء مرتين ، ( خلق ) مرة واحدة ، كان جعل مرتين ليشير إلى التحول في الخلقة من حيث النوع من ذكر إلى أنثى ، ثم جاء الفعل خلق ليذكرنا بأن إيجاد حواء خلق كخلق آدم
، وصناعة تماثل صناعته الأولى ولهذا تحتاج إلى هذا الإيجاد الثاني ولكن من نتفس مادة المخلوق الأول ، حتى لا ينفر منها ، بل يأنس إليها ، ويتم التآلف بينهما .
ثم كان الفاعل في الثلاث جمل واحداً ، وهو الله سبحانه وتعالى والمفعول واحد ( المخلوق ) حواء
4 ـ حرف العطف بين الجملتين : خلقكم من نفس واحدة + [ وجعل منها ـ ثم جعل منها ـ وخلق منها ] يشير هذا التنوع بين الواو وثمإلى اختلاف بين الجمل الثلاث في المواضع المختلفة منها ، فهي بين الواو ،وثم ، ولا اختلاف بين المفسرين في الواو ، حيث هي للعطف فقط ، فهي تجميع أنواع العطف ( اختصت الواو ـ من بين حروف العطف ـ بأنها يعطف بها ، حيث لا يكتفي بالمعطوف عليه ) (1)
أما ( ثم ) فحولها خلاف كبير ‘ فعلم الدين السخاوي يقول ( فإن قلت ما وجه دخول ثم في قوله ثم جعل منها زوجها ، قلت هما آيتان عظيمتان دالتان على قدرته ووحدانيته ، ثم شعب هذا الخلق الكثير الذي لا يحصر من رجل واحد ، ثم خلق الزوجة من الرجل ، وجعلها من جنسه ليكون الأنس أتم .....فعظمها بثم للدلالة على أنها أتم في كونها آية ، فهو من التراخي في الترتيب ، وقيل التقدير : خلقكم من نفس وجدت ، ثم شفعها الله تعالى بزوج ، وقيل أخراج ذرية آدم من ظهره كالذر ، ثم خلق بعد ذلك حواء (2)
فقد أفادت ثم هنا الترتيب مع التراخي ، وفي هذا القول الأخير للسخاوي نرى كيف كان خلق البشر جميعا من آدم وحده ، رغم أن التناسل لا يتم إلا من ذكر وأنثى ‘ فقد خلق آدم أولا ، ثم خرجت منه ذريته ، ثم خلقت حواء من قصيراه ، ثم تتابع التناسل منهما معاً .
ويقول الرازي ( فإن قيل كيف يقول هذا والزوج مخلوق قبل خلقهم ؟ قالوا إن كلمة ثم كما تجئ لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية ، فكذلك تجئ لبيان تأخر أحد الكلامين عن الآخر ، كقولك : بلغني ماصنعت اليوم ، ثم ما صنعت الأمس كان أعجب ( 3 )
وهو ما قاله من قبله الطبري من أن العرب ربما أخبر الرجل منهم عن رجل بفعلين ، فيرد الأول منهما في المعنى ب( ثم ) إذا كان من خبر المتكلم ، كما يقال : قد بلغني ما كان منك اليوم ، ثم ما كان منك أمس أعجب
1 ـ شرح ابن عقيل 2/208
2 ـ تفسير القرآن العظيم للسخاوي 2/1210 رسالة دكتوراة جامعة الفيوم كلية دار العلوم
3 ـ التفسير الكبير 13/223
،فذلك نسق من خبر المتكلم (1) ولكن الطبري نفسه يأخذ برأي آخر هو [ والقول الذي قاله أهل العلم أولى بالصواب وهو أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه قبل أن يخلق حواء ] (2) وهذا يعني أن ثم أفادت الترتيب مع التراخي بين الحدثين خلق آدم وخلق حواء ، ليكو ن بين ذلك إخراج ذرية آدم من9 فيما بين الحدثين .
ثالثاً : مكملات الآيات :
تختلف الآيات السابقة من حيث الإطار الذي ترد فيه في كل موضع ، مما يدل على أن هذا التكرار لم يأت عبثا ، بل جاء في إطار سياقات مختلفة لكل سياق هدفه الخاص ، ما بين الإيجاز في عرض القضية ، والإطالة في توضيح كل جوانبها مع الربط بين هذه القضية والموضوع الخاص بهذا الموضع .
أ ـ الإيجاز :
1 ـ ( هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ) ( الأنعام 6/98)
وهنا نرى ايجازاً شديداً في عرض القضية ، كما يقول القطبي ( هو الذي أنشأكم من نفس واحدة ) يريد آدم عليه السلام ...... قال ابن مسعود : فلها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها....وأكثر
أهل التفسير يقولون : المستقر ما كان في الرحم والمستودع ما كان في الصلب (3)
ورغم الاختلاف في معنى المستودع ، فهذا الكلام يشير إلى بداية الخلق ونهايته بايجاز شديد ، لأن هذا الكلام ورد في إطار تعدد دلائل قدرة الله في موضع يحتاج إلى الإيجاز يقول الفخر الرازي ( هذا نوع رابع من دلائل وجود الإله وكمال قدرته وعلمه وهو الاستدلال بأحوال الإنسان فنقول لا شبهة في أن النفس الواحدة هى آدم وهى نفس واحدة ، وحواء مخلوقة من ضلع من أضلاعه فصار كل الناس من نفس واحدة وهى آدم (4)
إذن فقضية خلق الناس جميعا من نفس واحدة ، استقرت بالرحم ، وانتهت بالقبر ضمن قضايا الإعجاز الإلهي لا يحتاج الموضع أكثر من هذا مع الحفاظ على القالب اللغوي الذي يتكرر في كل آية من الآيات الأربعة [ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ]
2 ـ [ خلقكم من نفس واحدة ، ثم جعل منها زوجها ] الزمر 39/6
وقد جاءت هذه الآية في نفس الإطار الذي ذكرناه آنفا وهو إطار تعدد إعجاز الله وآيات قدرته يقول فخر الدين الرازي (إنه تعالى أتبع ذكر الدلائل الفلكية بذكر الدلائل المأخوذة من هذا العالم الأسفل ، فبدأ بذكر الإنسان ( خلقكم من نفس واحدة ، ثم جعل منها زوجها ) ودلالة تكون الإنسان على الإله المختار قد سبق بيانها مراراً كثيرة ...... واعلم أنه تعالى لما ذكر الاستدلال بخلقه الإنسان على وجود الصانع ذكر عقيبه الاستدلال بوجود الحيوان عليه فقال ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ، وهى الإبل والبقر والضأن والمعز وقد بينا كيفية دلالة هذه الحيوانات على وجود الصانع(5)

1 ـ الجامع لأحكام القرآن 13/198
2 ـ المرجع السابق 13/198
3 ـ المرجع السابق 7/299
4 ـ التفسير الكبير مجلد 7/ص84 ـ 86
5 ـ المرجع السابق مجلد 13/ص224
وهذا الكلام يوضح أن في الآيتين إيجاز فرضه موضع الحدث ،وهو تعدد آيات قدرة الله وكمال صنعه ، مع الحفاظ على القالب اللغوي هنا أيضا ( خلقكم من نفس واحدة ) ، ثم جاءت زيارة استدعاها أيضاً سياق الحديث في سورة الزمر عكس ما في الأنعام ، وهى قوله( ثم جعل منها زوجها ) سوف يستفيض فيه في باقي الآيات بعد ذكر الأنعام ، فهو تفصيل أتى بعد الإجمال وهو قوله في نفس الإية ( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث
ب ـ الإطالة :
1 ـ قال تعالى ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) النساء4/1
هذه آية واحدة ذكر فيها الحق تبارك وتعالى بدء خلق الإنسان من آدم ، ثم انتشار النسل بعد خلق حواء منه ، فخلق رجالاً ونساءً كثيرا ، وجاءت ضمن أمر وجهه الله لعباده وهو التقوى ، وقد جعل الحق تبارك وتعالى هذا المطلع لسورتين كما قال الرازي ( في سورة النساء وسورة الحج وهو قوله ( يا أيها الناس اتقوا ربكم ) ، ثم أنه علل الأمر بالتقوى في هذه السورة بما يدل على معرفة المبدأ ، وهو أنه تعالى خلق الخلق من نفس واحدة ، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه....، وعلل الأمر بالتقوى في سورة الحج بما يدل على كمال معرفته بالمعاد ، وهو إن زلزلة الساعة شيء عظيم ، فجعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ، وقدم السورة الدالة على المبد أعلى السورة الدالة على المعاد ...اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقيبه أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ،وهذا مشعر بأن الأمر بالتقوى معلل بأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، ولابد من بيان المناسبة بين هذا الحكم وبين ذلك الوصف ، فنقول قولنا أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، يشتمل على قيدين أحدهما أنه تعالى خلقنا ، والثاني كيفية ذلك التخليق ، وأنه تعالى إنما خلقنا من نفس واحدة ولكل واحد من هذين القيدين أثر في وجوب التقوى ) (1)
هذا القول للرازي يربط فيه بين الأمر المذكور في أول الآية ، والوصف الذي ذكر فيه قدرة الله على الخلق بما يستوجب علينا تقواه ، ثم لتمام عظمة هذا الحدث ( خلق آدم ) تطرق الحديث إلى حواء ، ثم السلالة التي جاءت منهما ، ثم الحث على التقوى بتكرار الفعل ( اتقوا ) مرة أخرى مشيراً إلى شيء من جنس خلق آدم وحواء وأبنائهم ، وهو ما بينهم من صلة رحم ، فهم من آدم وحواء وبينهم هذا النسب الأصيل ، فيجب أن يحافظوا على تلك الصلة التي بينهم ويتقوها
ويناقش التركيب اللغوي لهذه الإضافة ( وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ) قائلاً ( لم يقل : وبث منهما الرجال والنساء ، لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك مجال ، فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله ( وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ) فإن قيل : لم لم يقل وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً وكثيراً ؟ ولم خصص وصف الكثرة بالرجال ودون النساء ؟ قلنا : السبب فيه ، والله أعلم ، أن شهرة الرجال أتم ، فكانت كثرتهم أظهر فخصوا بوصف الكثرة (2)
1 ـ التفسير الكبير مجلد 5/135
2 ـ المرجع السابق مجلد 5 /138
إذن فالإطالة هنا لغرض ما ، وهو توضيح عملية التكاثر والتناسل بين البشر من البداية ( آدم ) ، ثم حواء ، ثم بث منهما الرجال والنساء . ( فإن قيل كيف يصح أن يكون الخلق أجمع من نفس واحدة مع كثرتهم وصغر تلك النفس ؟
يقول فخر الدين الرازي : ( قلنا قد بين الله المراد بذلك لأن زوج آدم إذا خلقت من بعضه ، ثم حصل خلق أولاده من نطفتهما ، ثم كذلك أبداً ، جازت إضافة الخلق أجمع إلى آدم (1)
وهذا يعني صحة القول : ( من نفس واحدة ) ليطلق على كل البشر ، فكانت هذه الآية تفصيلاً وتوضيحا لكيفية أن الله خلقنا من نفس واحدة ، كل هذا التوضيح مع الحفاظ على القالب اللغوي في الآية [ الذي خلقكم من نفس واحدة ] كما في الآيتين السابقتين
2 ـ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منهما زوجها ليسكن إليها ، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به ، فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ، فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ، فتعالى الله عما يشركون ) الأعراف 7/189 ، 190
هذه الآية أكثر طولا ، وقد تعرضت لعملية الخلق بتفصيل أكثر من سابقتها ، حيث أشارت إلى خلق الإنسان منذ بدايته من آدم ، ثم خلق حواء ، ثم عملية التناسل بين البشر بداية بالجماع الذي أوجد الإنسان من نطفة ، ثم حمله ، وولادته ، كل هذا التفصيل ليوضح فضل الله على البشر وحفظه لهم في كل هذه المراحل ، ليقول في النهاية : فإذا هم يكفرون بي بعد هذه الفضائل والتجليات التي مننت عليهم بها ، فكان يجب الإطالة في هذا المقام حتى تنتفي العلة في الكفر بعد تلك الآيات المعجزة
قال السخاوي موضحا الرابط بين الآية الأولى والثانية ( وقيل هو الذي خلقكم يا معشر العرب من نفس واحدة ، وهى قصى ، وجعل من جنسها زوجها إلى أن قال : جعلا له شركاء فسموا أولادهم عبد مناف وعبد شمس وعبد الدار ، وهذا مال إليه الزمخشري ، وهذا لا يبقى عليه سؤال إلا بعد اللفظ عن إرادة قصى بن كلاب بن مرة ) (2)
ويؤكد هذا الرأي ما نجده لدى الرازي رداً على من قال : إن المقصود بهذا القول آدم وحواء فهما اللذان دعوا الله ، ثم جعلا لله شركاء فيما آتاهما ، قال : ( إن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه
الأول : أنه تعالى قال ( فتعالى الله عما يشركون ) ، وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة
الثاني : قال بعده ( أيشركون مالا يخلق شيئاً وهم يخلقون ) مما يدل على أن المقصود الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى
الثالث : لو كان المراد أبليس لقال : أيشركون من لا يخلق شيئاً ، ولم يقل : مالا يخلق شيئاً ، لأن العاقل : إنما يذكر بصيغة ( من ) لا بصيغة ( ما ) (3)

1 ـ المرجع السابق 5/137
2 ـ التفسير الكبير مجلد 8 ص71
3 ـ الكشاف 2/109
وذكر إلى جانب ذلك أسباباً أخرى يرد بها هذا الرأي ، والذي نلاحظه هنا ونقلناه من قوله في الرد استخدامه وسائل لغوية لتوجيه الآية ، واختبار رأي ما في تفسير الآية ، ثم يذكر تأويل القفال ( فقال : إنه ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل ، وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم ، وقولهم بالشرك ، وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة ، وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويها في الإنسانية ، فلما تغشى الزوج زوجته، وظهر الحمل دعا الزوج والزوجة ربهما ، لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكوننً من الشاكرين لآلائك ونعمائك ، فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سويا ، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما ،
لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع .......وتارة إلى الكواكب .....وتارة إلى الأصنام (1)
وكل هذه المجموعة من الآيات (أ) نجد القالب اللغوي يتكرر وهو ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) إشارة وتذكرة لهذا الفضل ، وحكم له بالإعجاز في خلق كل البشر من شيء واحد في البداية ، ثم خلق الشريك الآخر لتتم عملية التكاثر والتناسل من نقطة البدء هذه ( آدم ) ، وتلك معجزة أخرى بعد البدء ، وهى عملية التكاثر إن عملية الخلق بهذه الخاصية ( التكاثر ) لم يصنعها أحد من قبل أو من بعد سوى الله وتلك قمة الإعجاز في خلق البشر ، ولهذا لا يتحدى بالبعث لأن البدء أصعب من الإعادة بالبعث .
المصاحبات اللغوية لبيان المعنى :
وهذا المعنى الإعجازي قد بينته الآيات السابقة بمكملاتها وبواسائلها اللغوية المختلفة فمنها :
1 ـ استخدام قالب لغوي واحد لتأكيد المعنى ، وإظهاره في صورة حكم قاطع يسهل تكراره ، وهو قوله ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) وقد تكرر في أربع آيات من القرآن الكريم .
2 ـ استخدام كلمة نفس للإشارة إلى آدم دون غيرها من الكلمات مثل رجل أو إنسان للإشارة إلى الجانب الحي في الإنسان ، وهو عنصر التنفس الذي هو أساس الحياة ، فقد خلقكم من شيء حي ، يتنفس ، فمن فقد التنفس فقد الحياة ، والقدرة على التوالد ، فكان التعبير بالنفس أدق .
3 ـ وصف النفس بالواحدة للتأكيد على جانب الإعجازي في الخلق ، فكل الخلق جاء من نفس واحدة هى آدم، ثم خلق حواء من آدم ، فالناس جميعاً خلقوا قبل خلق أمهم حواء ، ولذلك قال بعدها : ( وخلق منها زوجها ) من آدم ، ثم خلق بعد ذلك حواء ، فمن ممن يدعى أنه إله قد فعل ذلك ؟ وهو سبحانه يتحدى بهذه العملية ( الخلق ) كل من أشرك به ، ولكنهم لا ينكرون ذلك رغم شركهم .
1 ـ المرجع السابق المجلد الثامن ج 15 ص72
4ـ تكرار هذه الآيات التي فيها إشارة إلى أنه خالق الخلق ، مما يدل على أنه يعتز بصناعته ، وهى خلق الناس من نفس واحدة ، وحق له أن يعتز ويفتخر ويقسم بما صنع
5 ـ استخدام الضمير ( هو ) بدلا من أنا ، ومن لفظ الجلالة ( الله ) هو تعظيم لا يدركه إلا من أنار الله بصيرته ، وحيث يعني الضمير ( هو ) الإشارة إلى الحاضر الغائب ، فهو سبحانه الحاضر في كل صنعة صنعها ، وعلى رأسها خلق الناس من نفس واحدة ، والغائب عن عيون خلقه العاجزة عن أن تبصره لضعف إيمانها فلو آمنت به حق الإيمان لرأته في كل ما خلق .
وأيضا لإثارة انتباه السامع بالبحث عن العائد عليه الضمير ( هو ) في الجملة . 6 ـ استخدام ضمير المخاطب ، وميم الجمع في خلقكم ، للإشارة على عموم البشر ، وتوجيه الخطاب إليهم وليصبح الخطاب موجهاً مباشرة إليهم وبدون وسيط ، ولهذا وجب عليهم الرد بالنفي ، إذ ا كان هناك خالق غيره ، ولم يحدث ، فثبت بذلك أحقيته في أنه الخالق سبحانه وتعالى
7 ـ جعل الاسم الموصول خبراً ، وهو المعروف بافتقار ه إلى جملة الصلة ، فكان عنصر تشويق لمعرفة جملة الصلة ، وإزالة الإبهام عن الاسم الموصول بقوله ( خلقكم ) ، وجعلها فعلية للدلالة على الحدث
وهو الخلق ، وفعلها ماض للدلالة على انتهاء هذا الحدث .
8 ـ جعل تبارك وتعالى الإعجاز في شيئين عبر عنهما بكلمتين ، الأولى : خلقكم ، والثانية من نفس واحدة ، فكانت الأولى تعبيراً عن الحدث المعجز ، وهو أنه سبحانه خلقنا ، وهذا الفعل المعجز لم ينسبه أحد لنفسه سوى الله ، والثانية أن هذا الخلق جميعه جاء من نفس واحدة ، وتلك معجزة أخرى ، وهى القدرة على التوليد للأشياء من شيء واحد ، لم يصنعها أي صانع أو خالق سوى الله .
المجموعة ( ب ) ما يتصل بالبدء من آيات

1 ـ الشمس 91/7 ( ونفس وما سواها )
هذه الآية تتصل بأمر خلق الإنسان وبالنفس الإنسانية ، فنجد الحق تبارك وتعالى يقسم بالنفس لعظمتها عنده ، وأعظم ما فيها خلقها وصناعتها ، ولهذا أقسم بعملية الخلق بعد القسم بالنفس ، يقول القرطبي ( سواها : سوى خلقها وعدل ، وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم ، أقسم جل ثناؤه بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه (1)على أن المراد بالنفس آدم كما قال الألوسي (2) ، ورأى الرازي أن تنكير النفس فيه وجهان ، أحدهما أن يريد به نفساً خاصة من بين النفوس ، وهى النفس القدسية النبوية ، .....ونفس إشارة إلى تلك النفس التي هى رئيسية لعالم المركبات رياسة بالذات، الثاني : أن يريد كل نفس ، ويكون المراد من التنكير التكثير عل الوجه المذكور في قوله ( علمت نفس ما أحضرت ) ( 4 )
ويذكر الطبري رأياً أخر في النفس قائ

ليندة

عدد المساهمات : 1
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى